{لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ(1)} والمعنى : أقسم بهذا البلد الحرام وهو" مكة " ، وقد جاء القسم بها فى قوله - تعالى - : { والتين والزيتون . وَطُورِ سِينِينَ . وهذا البلد الأمين }[سورة التين:1-3] وعلى ذلك فإن " لا " فى مثل هذا التركيب مزيدة للتأكيد ,كما ذكر المحققون. قال الشيخ محمد عبده - رحمه الله - : قوله : { لاَ أُقْسِمُ . . } عبارة من عبارات العرب فى القسم ، يراد بها تأكيد الخبر ، كأنه فى ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم . ويقال إنه يؤتى بها فى القسم إذا أريد تعظيم المقسم به . كأن القائل يقول : إنى لا أعظمه بالقسم ، لأنه عظيم فى نفسه ، والمعنى فى كل حال على القسم . .............................. ....................
{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ(2)} ذكر المفسرون لها عدة أوجه:
الأول:قوله تعالى: { حِلٌّ } اسم مصدر (أحَلَّ) بمعنى( أباح) فيكون معنى الآية : وأنت - أيها الرسول الكريم - قد استحل كفار مكة إيذاءك ومحاربتك. مع أنهم يحرمون ذلك بالنسبة لغيرك ، في هذا البلد الأمين . الثاني : أن يكون لفظ " حِل " هنا بمعنى الحلال الذي هو ضد الحرام يقال : هو حِل وحلال ، وحِرْمٌ وحرام . فيكون المعنى : وأنت - أيها الرسول الكريم - قد أحل الله تعالى لك أن تفعل بهؤلاء المشركين ما شئت من القتل أو العفو . ولا يعترض على ذلك المعنى بأن السورة مكية والله قد أحل له ذلك يوم فتح مكة. إذ يجوز أن يكون ذلك بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله - تعالى - سينصره على مشركي قريش في المستقبل، ويمكنه من رقابهم . وقد أنجز له - سبحانه - ذلك يوم الفتح الأكبر . وقال الحسن البصري: أحلها الله له ساعة من نهار. وهذا المعنى الذي قالوه قد وَرَد به الحديث المتفق على صحته: "إنّ هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حَرَامٌ بحُرمَة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شجره ولا يختلى خلاه. وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب" وفي لفظ آخر" فإن أحد تَرَخَّص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" . الثالث: أن معنى {وأنتَ حِل} أي: مقيم وساكن بهذا البلد الحرام ، وحالٌّ فيه. قال ابن عطية: وهو تأويل جميل ، لو ساعد عليه ثبوت استعمال " حِل " بمعنى حالٍّ ، أى : مقيم فى مكان ، فإن هذا لم يرد فى كتب اللغة. .............................. .................... .......
{ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)} أي:وأقسم بوالد البشرية- وهو آدم عليه السلام- وما تناسل منه من ولد. أو المعنى: أقسم بكل والد وبكل مولود (على العموم). أو: المراد بالوالد : مَن يولد له ، وبقوله { وَمَا وَلَدَ } العاقر الذي لم يولد له فتكون" ما" نافية . .............................. .................... ............ { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍْ (4)} هو جواب القسم والمعنى: لقد خلقنا الإنسان في شدة وعناء من مكابدة الدنيا.
{ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) } أى : أيظن هذا الإِنسان الذي هو فى تعبٍ ومشقة طول حياته ، أنه قد بلغ من القوة والمنعة بحيث لا يقدر عليه أحد .أو أيظنُّ بما جمعه من مال أن الله لن يقدر عليه؟
.............................. .................... . { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) } يقول متباهيًا: أنفقت مالاً كثيرًا. أيظنُّ في فعله هذا أن الله عز وجل لا يراه، ولا يحاسبه على الصغير والكبير؟ وفى الحديث الشريف : " لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن شبابه فيم أبلاه ، وعن عمره فيم أفناه ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه ". .............................. .................... ............. { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ( وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) } والمعنى: ألم نجعل له عينين يبصر بهما، ولسانًا وشفتين ينطق بها، وبينَّا له طريقي الخير والشر؟كما قال تعالى : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان:3], والاستفهام هنا للتقرير.
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) } وأيُّ شيء أعلمك: ما مشقة الآخرة، وما يعين على تجاوزها؟ ثم فسر اقتحام العقبة بما يلي: .............................. .................... .............. { فَكُّ رَقَبَةٍ (13) } أي: عتق رقبة مؤمنة وتخليصها من أسر الرِّق والعبودية. .............................. .................... ... { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) }
أو إطعامٌ في يوم ذي مجاعة شديدة، يتيمًا من ذوي القرابة ، أو مسكينًا لصق بالتراب من فقره وضره ، وهو كناية عن شدة الفقر والبؤس قال ابن عباس : هو المطروح على ظهر الطريق لا يقيه من التراب شيء.
وخص - سبحانه - الإطعام بكونه في يوم ذي مجاعة ، لأن إخراج المال فى وقت القحط ، أثقل على النفس ، وأوجب لجزيل الأجر ، كما قال - تعالى - : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ }[آل عمران:92] وقيد - سبحانه - اليتيم بكونه ذا مقربة ، لأنه فى هذه الحالة يكون له حقان : حق القرابة(صلة الرحم) ، وحق اليُتم ، ومن كان كذلك فهو أولى بالمساعدة من غيره.
والمعنى: ثم كان- مع فِعْل ما ذُكر من أعمال الخير- من الذين آمنوا بالله إيمانًا حقًا، وأوصى بعضهم بعضًا بالصبرـ والصبر يكون على طاعة الله وعن معاصيه وعلى المصائب والبلايا - وأوصى بعضهم بعضًا بالتعاطف والتراحم . وفي الآية إشارة أن هذه القرب والطاعات لا تنفع إلا مع الإيمان. .............................. .................... .................
{ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) } الذين فعلوا هذه الأفعال الطيبة ، هم أصحاب اليمين، وهم السعداء الذين يؤخذ بهم يوم القيامة ذات اليمين إلى الجنة. .............................. .................... ..... { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) } أي: والذين كفروا بالقرآن وبالبراهين على وحدانيتنا هم الأشقياء الذين يؤخذ بهم يوم القيامة ذات الشمال إلى النار. وعبر عنهم بضمير الغائب (هم) إشارة إلى أنهم غائبون عن حضرة قدسه ، وكرامة أنسه. .............................. .................... { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) } أى : عليهم نار مطبقة مغلقة بحيث لا يستطيعون الخروج منها. ..... نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من أصحاب الميمنة . .ـــــــــــــــــــــــــــــ البلاغة : تضمنت السورة الكريمة وجوها من البديع والبيان نذكر منها ما يلي :
1-افتتحت السورة الكريمة بالقسم ، تشويقا لما يرد بعده ، وتأكيدًا للمقسم عليه . 2ـ زيادة [ لا ] لتأكيد الكلام ، وهو مستفيض في كلام العرب [ لا أقسم بهذا البلد ] أي أقسم بهذا البلد ، وفائدتها تأكيد القسم كقولك : لا والله ما ذاك كما تقول أي والله قال امرؤ القيس : " لا وأبيك ابنة العامري " . 3- والإِشارة بلفظ " هذا " مع بيانه بالبلد ،في قوله[هذا البلد] إشارة إلى حاضر في أذهان السامعين ، لأن مكة بعضهم كان يعيش فيها . وبعضهم كان يعرفها معرفة لا خفاء معها ، وشبيه بذلك قوله تعالى: { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ }[النمل:91 ] وفائدة الإِتيان باسم الإِشارة هنا : تميييز المقسم به أكمل تمييز لقصد التنويه به . 4ـ جناس الاشتقاق [ ووالد وما ولد ] فكل من الوالد والولد مشتق من الولادة. 5- وجئ باسم الموصول " ما " فى قوله{ وَمَا وَلَدَ }دون " من " معأنها أكثر استعمالا فى العاقل الذى هو مراد هنا ، لأن " ما " أشد إبهامًا ، وشدة الإِبهام المقصود بها هنا التفخيم والتعظيم .
6- تنكير لفظ" والد " هنا للتعظيم أيضًا .
7ـ الاستفهام الإنكاري للتوبيخ [ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ] ؟ ومثله [ أيحسب أن لم يره أحد ] ؟ 8ـ الاستفهام التقريري للتذكير بالنعم [ ألم نجعل له عينين ولسانًا وشفتين.. ] ؟ 9ـ الاستفهام للتهويل والتعظيم [ ومآ أدراك ما العقبة ] ؟ لأن الغرض تفخيم شأنها ، والتهويل من أمرها ، والتشويق إلى معرفتها.
10ـ الاستعارة اللطيفة [ وهديناه النجدين ] أي طريقي الخير والشر ، وأصلُ النَّجد: الطريق المرتفع ، استعير كل منهما لسلوك طريق السعادة ، وسلوك طريق الشقاوة.
11ـ الاستعارة كذلك في قوله [ فلا اقتحم العقبة ] لأن أصل العقبة الطريق الوعر في الجبل ، واستعيرت هنا للأعمال الصالحة لأنها لا تصعب وتشق على النفوس ، ففيه استعارة تبعية. 12- [يوم ذي مسغبة]وصف اليوم بالمسغبة على سبيل المبالغة كما فى قولهم : نهاره صائم .
13ـ الجناس الناقص بين [ مقربة ] و[ متربة ] لتغير بعض الحروف.
14ـ المقابلة اللطيفة بين [ أولئك أصحاب الميمنة ] وبين [ هم أصحاب المشأمة ] . 15ـ مراعاة الفواصل ورءوس الآيات مثل [ لا أقسم بهذا البلد.. ووالد وما ولد. لقد خلقنا الإنسان في كبد ] ومثل [ عينين ولسانا وشفتين ] وهو من المحسنات البديعية.
*** تمت بحمد الله *** __________________
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل **د البحر" {متفق عليه}
mr_MahmoudMagdy عضوجديد
تاريخ التسجيل : 27/03/2011عدد المساهمات : 19نقاط : 17
موضوع: رد: تفسير سورة البلد... الجمعة أبريل 29, 2011 6:37 am