إن من العبادات التي هجرها الكثيرون في هذا الزمان عبادة التفكر في آيات
الله - تعالى -الكونية التي دعا إليها القرآن الكريم والسنة النبوية والسلف
الصالح.
وهذا الهجر سبّب خللا في الوعي الإسلامي، إذ أصبحنا نهتم بأمور
هي دون عبادة التفكر في الاعتبار الشرعي والفائدة المرجوة، ولعل ما تقوم
به هيئة الإعجاز العملي في القرآن والسنة من البحوث والمؤتمرات والندوات
والمقالات والتشجيع على البحث في مجالات علمية وردت في القرآن الكريم
والسنة النبوية يساهم في إحياء هذه العبادة العلمية التي هي من أولى
العبادات الموصلة إلى الارتقاء بالمستوى الإيماني للمسلم المعاصر.
هل التفكر عبادة؟
والجواب بلا شك: نعم. وتعليل ذلك من وجوه:
التعليل
الأول: لأن الله - تعالى - مدح المتفكرين في كتابه بقوله (إِنّ فِي خَلْقِ
السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لآيات لأولي
الألْبَابِ، الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ربنا مَا
خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ) [آل عمران:
190، 191].
وختم الله - تعالى - ثلاث عشرة آية من كتابة بلفظ (تتفكرون)
أو(يتفكرون) مما يصور أهمية الأمر، وقال - سبحانه -: (أَوَلَمْ
يَتَفَكّرُواْ)[الأعراف 184]، وفال - عز وجل -: (وَفِيَ أَنفُسِكُمْ
أَفَلاَ تُبْصِرُونَ)[سورة الذاريات 21] والبصر هنا بمعنى التفكر، وقال -
سبحانه - (قُلْ إِنّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلّهِ
مَثْنَىَ وَفُرَادَىَ ثُمّ تَتَفَكّرُواْ) [سورة سبأ 46] فأمرهم بالقيام من
اجل التهيؤ للتفكر، فالتفكر هو الموعظة المقصودة هنا بالرغم من وجود مواعظ
أخرى.
والتعليل الثاني: لأن الله ذكر في أكثر من 250 آية من القرآن
الكريم صورا مختلفة للكون الذي يحيط بنا في سماواته وأرضه، وفي جباله
وبحاره وأنهاره، وفي مخلوقاته من الجن والإنس والطير والدواب، وفي هوائه
وسحابه وأمطاره، وفي أحداثه وتغيراته، وفي حاضره وماضيه، وفي مشاعره
وتسبيحاته، أترى هذا الكم الكبير من الآيات التي تفوق الآيات المتحدثة عن
الأحكام الفقهية ذكرت عرضا أو للقراءة المجردة فحسب؟!
والتعليل الثالث:
إن الله -تعالى- ذم معطلي العقول والأفكار، وشن عليهم حملة في آيات عدة من
كتابه العزيز؛فقال - سبحانه -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُواْ ما
أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءنا)
(لقمان 21)، وقال - عز وجل -: (وَكَذَلِكَ ما أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي
قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنّا وجدنا آباءنا عَلَىَ
أُمّةٍ وَإِنّا عَلَىَ آثَارِهِم مّقْتَدُونَ، قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ
بِأَهْدَىَ مِمّا وَجَدتّمْ عَلَيْهِ آباءكم قَالُوَاْ إِنّا بِمَآ
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ)[الزخرف 23 - 25]، فجعل تعطيل العقل
التقليد الأعمى سببا للتكذيب والكفر ثم سوء العاقبة.
والتعليل الرابع:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتفكر في آيات الله - عز وجل -، فيقلب
وجهه في السماء، وقد قال مرة لأصحابه: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات
الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته))[البخاري ومسلم]، وكان يأمر أصحابه
بالتـفكر فيقول: (تـفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله) أخرجه أبو
الشيخ في العظمة 1/210 و الطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عمر و حسنه
السخاوي، وله طرق أخرى، وكان أصحابه - رضي الله عنهم - كذلك، قيل لأم
الدرداء: ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: التفكر.
وكان التابعون كذلك، قال بن القيم - رحمه الله -: "قال بعض السلف: تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة" [البخاري ومسلم].
وقال الحسن: إن من أفضل العمل الورع والتفكير.
وقال
مولى سعيد بن المسيب: "ما رأيت أحسن مما يصنع هؤلاء، قال: وما يصنعون؟،
قال: يصلي أحدهم الظهر، ثم لا يزال صافا رجليه حتى يصلي العصر، قال: ويحك،
أما والله ما هي العبادة، إنما العبادة التفكر في أمر الله، والكف عن محارم
الله" أخرجه أبو الشيخ في العظمة 1/210 والطبراني، والبيهقي في الشعب عن
ابن عمر وحسنه السخاوي، وله طرق أخرى.
فوائد التفكر:
للتفكر الشرعي الذي أمر الله به فوائد عدة، فمن فوائده:
1)
يجدد الإيمان ويزيده: قال ابن القيم - رحمه الله -: التفكر يكشف حقائق
الأمور ويميز مراتبها في الخير والشر ومعرفة المفضول من الفاضل، والتفكر
يزيد الإيمان أكثر مما يزيده العمل.
2) التفكر من أعمال القلب، وأعمال القلب أفضل من أعمال الجوارح باتفاق العلماء.
3) يبعث على التواضع أمام عظمة الله تبارك وتعالى، ويبعث على حسن الظن بالله - عز وجل -.
4) يؤدي إلى العمل بآيات كثيرة من كتاب الله تعالي والعمل بسبة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
5) يفتح آفاق العلم و الإيمان مما لم يكن معلوما قبل ذلك؛ لأن الفكرة تجر الفكرة.
ضوابط التفكر:
ينبغي
ألا يصل التفكر إلى حد الخروج عما لم يحط الإنسان بعلمه، أو الخروج عما
ينبني تحته عمل، أو تصور أمور لا يمكن تصورها لأنها لا تخضع لمقاييسنا
كالقبر وما فيه والآخرة ما فيها والملأ الأعلى وما يخصه، فان ذلك قد يؤدي
إلى الوسوسة والشك، وهذا ما حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - منه في قوله:
(تـفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله).
وقال - عليه السلام -: (إن
الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السموات؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق
الأرض؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الله؟ فإذا أحس أحدكم من ذلك شيئا
فليقل: آمنت بالله ورسوله) [أخرجه أبو الشيخ في العظمة 1/303 والإمام احمد
في الزهد بسند صحيح].
وإذا كنا في حياتنا لا نفهم أشياء كثيرة نعايشها
كالروح، والحواس وحدودها، والعقل وماهيته، والمشاعر والنفسيات، وكثيرا مما
يحتويه الجسم من وظائف وأعضاء دقيقة، وبعض مراحل التخلق الجنيني، والرسالة
النبوية وطبيعتها، والتخاطب عن بعد، والأقدار الإلهية، والرؤيا والأحلام..
وغيرها، فإن هذا مما يمنعنا من التطاول فوق حدود المعقول، وقد أحسن من قال:
قل لمن يفهم عني ما أقول *** قصرِّ القول فذا شرح يطول
ثَمَّ سر غامض من دونه *** قصرت والله أعناق الفحول
أين منك الروح في جوهرها *** هل تراها؟ أم ترى كيف تجول؟
وكذا الأنفاس هل تحصرها؟ *** لا ولا تدري متى عنك تزول؟
أين منك العقل والفهم إذا *** غلب النوم فقل لي يا جهول؟
أنت أكل الخبز لا تعرفه *** كيف يجري منك أم كيف يجول؟
فإذا كانت طواياك التي *** بين جنبيك كذا فيها ضلول
كيف تدري من على العرش استوى *** لا تقل كيف استوى كيف النزول؟
كيف يحكي الرب؟ أم كيف يرى؟ *** فلعمري ليس ذا إلا الفضول
جل ذاتا وصفاتا وسما *** وتعالى قدره عما تقول
رواه أبو هريرة مرفوعا، انظر العظمة1/300
وختاما:
إن لكل غاية وسائل، إذا تعاطاها الإنسان وصل إلى تلك الغاية التي يريدها، ومن جملة ذرائع التفكر ما يأتي:
1)
الممارسة والتعود، ولا ينبغي أن يكون كر الأيام وتتابع الأحداث المتشابهة
عائقا لنا عن التفكر، فان في خلق الله - عز وجل - من العجائب ما لو وقف
عليه المرء لأدرك عظمة خالقه واكتشف قدرته وإبداعه، إلا انه يحتاج إلى فكر
ثاقب واجتهاد وخشية لله - تعالى -.
2) مخالطة العلماء الربانيين الذين أدركوا حقيقة التفكر المشروع، أو الاطلاع على أبحاثهم وكتبهم.
3) التخلص من الذنوب، والإقلال منها بقدر المستطاع، فإن المعصية تحجب الفكرة.
4) الاجتهاد في الطاعة واستحضار الخشوع والبكاء من خشية الله.
5) ترك ما لا ينبغي من الأقوال والأحوال والأعمال.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه