أحباء هديل .. يسطروا لها وداعهم الأخير
حورية الدعوة
(1)
عمرك الممدود
التقيتها قبل عشرين عاماً..
كانت طفلة ذات شخصية محبوبة مليئة بالحيوية والنشاط.. تلمح في عينيها النباهة والذكاء..
رغم سنوات عمرها الخمس إلا أنها تتحدث اللغة العربية الفصحى بطلاقة يتعجب منها الكبير قبل الصغير..
لا تزال ذكريات هذه الزيارة الجميلة عالقة في الذهن رغم مرور عشرين سنة..
مع مرور الأيام والسنين تتطور العلاقة، وتتغير طبيعتها، لكنها تبقى محافظة على الأصل..
فمن صداقة عائلية.. إلى علاقة عمل.. إلى صداقة شخصية..
عملتْ مع (حياة) مدة ثلاث سنوات، أبدعت فيها وقدمت الأجمل والأفضل لقارئات المجلة.. تركت أثراً باقياً يذكر فيشكر على تميزها وعطائها..
انقطعت عن الكتابة في المجلة لظروف دراستها، لكنها لم تنقطع عن التواصل معها ومع زميلاتها كاتبات (حياة).. فقد شاركت حياة في أفراحها وأتراحها..
لم تبخل يوماً بمشاركة ”حياة“ بأفكارها ومقترحاتها.. كما لم تنقطع زياراتها وتفقدها لتطورات المجلة أولاً بأول.. فهي بحق إحدى بنات (حياة) البارات..
خمسة وعشرون عاماً هو عمرها الزمني الذي يقاس من يوم ميلادها، لكن عمرها الحقيقي أطول من ذلك بعقود.. قدمت الكثير لمجتمعها ولأبناء جيلها..
ولمعرفتها بجيل الشباب.. اتخذت أسلوب الوصول السريع والواسع عبر مدونتها (باب الجنة).. تبث من خلالها رسائلها لشباب العالم.. تناقش وترد وتقدم فكراً أصيلاً أصبح نبراساً لمرتادي مدونتها..
صدق القائل بأن عمر الإنسان لا يقاس بطول السنين ولكن بعرض الأحداث.. وهذا والله عمرك يا هديل.. خمسة وعشرون سنة هي عمرك المعدود.. لكن عمرك الممدود هو ما تركتِه من فكر وثقافة وأدب.. وقبل كل ذلك حسن الخلق والعشرة مع من حولك..
اليوم نودعها لدار الخلد.. بعد أن دخلت في غيبوبة لم تمهلها طويلاً.. (خمس وعشرين يوماً) كانت تمهيداً لكل أحبابها بأنها تودع الجميع، حيث دار القرار في جنات الفردوس..
هذا ما عاشته هديل بنت محمد الحضيف..
وفي هذا العدد، ورغم ضيق الوقت.. قمنا بتأخير صدوره؛ لأن الكثير من أحبائها أبوا إلا أن يسطروا لها وداعهم الأخير.. في ملف خاصٍ لروح هديل الطيّبة.. رحمها الله رحمة واسعة..
إيمان - رئيسة التحرير
(2)
لا أصعب من أن تهدي راحلاً.. أوراقاً تودعُ فيها قلبك.. وحبك..
ورغم إدراكك أنه لن يقرأها.. يظلّ هاجسك أن تكتب.. وتكتب؛ لتنفّس عن مشاعرك الحقيقيّة بلا ريب، وبلا زخرفةٍ، ودون أن تخشى شيئاً..
* * *
هديل.. ولدتْ في شهر إبريل 1983م، بكراً لوالدها الدكتور محمد الحضيف الكاتب والإعلامي المعروف.. بدأت عملها في (حياة) وهي فتاة التاسعةَ عشرة كمحررة لباب (إبداع).. تنثرُ إبداعاتها وتشجيعها لقارئات حياة..
وقد تخرجت قبل عامين من جامعة الملك سعود قسم رياض الأطفال..
ثم عملت في مكتبة الملك عبد العزيز العامّة.. وخلال مسيرتها الجامعية اقتحمت هديل – رحمها الله – عالم التدوين.. بدايةً بمدونة تتبع خدمة الـهـوتـمــيل، ثم بمدونتها المعروفة في أوساط المدونين (باب الجنة) التي تحوي كثيراً من أفكارها ورؤاها التي تدل على العمق والاطلاع الواسع.
وفي يوم 14 ربيع الثاني الماضي استيقظ الصباحُ بإغفاءةٍ لهديل..
دخلت على أثرها في غيبوبة قاربت الشهر..
حتى انتقلت إلى رحمة الله صباح يوم الجمعة 11/5/1428هـ..
وصلي عليها في مسجد الراجحي بالرياض..
* * *
لوالدها الدكتور محمد، ولوالدتها الكريمة..
لزميلة المجلة أروى..
لأسرتها..
تعازينا الصادقة.. ودعواتنا لهم بالثبات والرضا، أحسن الله عزاءكم وعظّم أجركم..
وغسل قلوبكم باليقين، وعوّضكم خيراً..
* * *
مشاعر هي الأصدق.. ودعوات ترتفعُ بأكفٍ صادقةٍ للسماء..
نهديها الراحلة.. هديل بنت محمد الحضيف..
وداعاً أخيراً، وذكرى لا تفنى..
أسرة مجلة حياة،،
(3)
رسالة إلى الله
هذه رسالة إليك يا الله ..
لن يحملها سعاة بريد، ولن يوصلها إليك الرسل المنتشرين بين السماء والأرض..
هذه رسالة إليك مباشرة.. بلا وسطاء ..
يا الله..
لم تكن المرة الأولى التي أشعربك قريبا إلى حد أن تحيط بي، وأن أكون في عينك، وما استغربتُ أن تفتح الأبواب لصلواتي التي ما فتئتُ أرفعها إليك منذ أن تشعبت بي الطرق، وغدا اختيار أحدها موتا لا مهرب منه.
كلما حذفتَ من أمامي خيارا، وقلصتَ مساحات الحيرة المترامية، آمنتُ بك أكثر، وآمنتُ بأن دربي الذي أسير فيه صحيح، لأن ما من أحد غيرك يستطيع أن يتدخل في اللحظات الأخيرة، ليحول بيني وبين ملك الموت.
اليوم كنت أبكي، وكانت عشرات الوجوه في المرايا الصغيرة الموزعة على جدار السلّم المهجور.. تبكي معي، ساكبة دمعها في قلبي، وبينما أنا أحاول صنع دعوات تليق لأرفعها إليك، مضت تلك الوجوه الكثيرة تتوسل إليك يا الله أن تلهمني نورا أسترشد به قبل أن يحيق بي الظلام.
كنتُ أعرف يا الله أنك لن تتركني، وأنك ستكون معي كما تفعل دائما، لكن أن تقف بعتبة بابي، وتغمر روحي بالماء دون سابق إلهام، فهذا ما لم أخطط له، ولم تكن سجداتي المكرسة للدعاء تطلبه، أو تطمح إليه..
أنا هنا يا الله، مجردة من كل شيء، إلا من مطر ينهمر من سمائك، ومن شكر لا يليق إلا بك، ولا أفيك رغم كل ذلك.
شكرا لك يا الله، لأني في كل مرة أحاول الصعود إليك، تنزل إليّ، وتهمس في أذني: “لستِ وحدكِ” .. وما كنتُ يوما وحدي يا الله.. وأنت معي..
من مدونة هديل
(4)
على باب الجنة
حين يكون الحديث عن الموت..
يصبح كل شيء مهيباً..
تصبح الكلمات أكثر جموحاً..
ولا شيء يمكنه أن ينطق بحقيقة المشاعر..
ليعني الله على هذه الكلمات..
* * * *
لا أعرف كيف أتحدث عنك الآن يا هديل..
وأنا أحاول أن أستحضر .. أنك..
لم تعودي هنا..
البارحة فقط..
رأيتك.. بكل وضوح..
ترتدين عباءتك .. وتنظرين إلي، ثم تمضين عابرة على عجل..
كدت أصرخ لأستوقفك..
لكنك تركتنا .. ومضيت..
* * * *
حين أتحدث الآن..
يتسلل إلى سمعي صوت ضحكتك الطفولية .. وتمر أمامي فلاشات سريعة .. لحديثك المتحمس .. وحركات يديك..
ولا أكاد أستوعب..
أني لن أراك بعد اليوم..
أستحضر صورتك للمرة الأخيرة التي رأيتك فيها.. في احتفال حياة..
كنت أراك بعد فترة طويلة.. ومازحتك .. أنك أصبحت تتعالين علينا .. فقد انشغلت بمدونتك وأصبح لك متابعون مختلفون..
لكنك طمأنتني بكل عفوية ومرح .. أشرت بيدك كعادتك وعيناك تضحكان“ : لاااا تخافين .. أنا هديل اللي تخبرين”
* * * *
لا أزال أذكر..
حين كنا نعمل جاهدين على تأسيس صرح“ حياة.. ”
كنا نحفر على الصخر .. لنعد أول أعدادها..
وكنا نبحث عن محررة .. فتاة يافعة .. وبمواصفات معينة .. تنضم لنا في فريق التحرير..
لكننا كنا نواجه صعوبة شديدة..
لأننا لا نريد فتاة عادية .. بل نريدها بمواصفات مميزة جداً..
أذكر يوم أن وعدتنا أستاذة إيمان .. بأنها ستعرّفنا على فتاة .. غير..
فتاة .. مميزة جداً .. جداً..
تساءلنا من قد تكون..؟
ولم نستوعب مدى التميز الذي تتحدث عنه..
توقعنا أنها مجرد مبتدئة لديها بعض الموهبة..
لكن .. بعد أسابيع..
فوجئت بقصة“ ضي” على صفحات المجلة..
كانت أروع مما تخيلت .. أروع بكثير..
قرأتها عدة مرات..
شعرت بأن من كتبتها .. هي أديبة .. وإنسانة .. ومثقفة.. ومخرجة سينمائية..
وكنتِ .. أنتِ..
هديل الحضيف..
بعدها بفترة .. التقيتك..
ولن أنسى في حياتي ذلك الموقف الذي حصل..
والذي علمتني فيه درساً من دروس الحياة التي لا تتكرر كثيراً..
هل تذكرين؟
كنت في بداية لقائي بك..
ولم أعرف بعد أنك ابنة الدكتور محمد الحضيف..
وجرنا الحديث للنقاش حول إحدى قصص والدك الفاضل .. وكنت أنتقد بعض الجوانب في القصة.. كانت لي وجهة نظر .. قد تكون خاطئة .. وقد تكون متهورة .. لكني انتقدت على أية حال..
وكنت تنظرين إلي بصمت..
لم تناقشي .. لم تردي .. اكتفيت فقط بابتسامة مؤدبة..
وبعدها بفترة..
عرفته أنه .. والدك..
ولأي شخص أن يتخيل حرجي!..
وبعد أشهر .. صارحتك..
وسألتك..
لماذا لم تخبريني في ذلك اليوم .. أنه والدك؟
لماذا لم تردي علي يومها..؟
ألم تتوقعي مثلاً أني أتعمد انتقاد قصة والدك أمامك؟
لكنك أجبتني مبتسمة“ .. لاااااا عااااااادي يا نوف ” ..
وتعلمت منك إحدى أروع دروس الحياة..
أن أصبر .. وأحلم على من ينتقدني .. أو ينتقد من أحب..
وأن أحسن الظن بالآخرين..
لا أزال أذكر اجتماعاتنا في منتدى حياة الأدبي..
وكأنك أمامي الآن..
ولا أزال أذكر كلماتك بالحرف .. إشاراتك.. وحركات يديك..
حين أتحدث معك .. كنت أشعر أني أحرر قيود عقلي..
وأبحر بعيداً .. بعيداً جداً..
ربما أقولها متأخراً جداً يا هديل..
(ونحن دائماً هكذا .. لا نتحدث إلا متأخراً)..
لقد تعلمت منك أشياء كثيرة..
ولفت نظري لأشياء كثيرة..
لن أنسى ملفك المرتب .. الذي يحوي أوراقك وقصاصاتك .. وأحد الكتب التي تقرئينها دائماً.. وكنت أقول لك دوماً.. إني أتمنى لو كنت بمثل ترتيبك وتنظيمك لأشيائك ولوقتك .. خاصة حين أنظر لأوراقي المتناثرة في أدراجي الكثيرة..
هذه الكلمات المتناثرة .. ليست ديباجة في مدحك يا هديل..
فلست ممن يحبون المديح..
ولست ممن أراد أن يرسم لك صورة الكمال..
فأنا أعرف أنك كنت إنسانة عادية مثلنا .. وهذا مكمن جمالك..
لم أرغب في أن أتحدث عن“ هديل الحضيف ”..
التي يتحدث عنها الجميع..
بل .. عن إنسانة .. عرفتها..
وأفتقدها الآن..
وأقولها لك بكل بصدق..
أفتقد وجودك في هذا العالم .. يا صديقتي..
فمجرد وجود إنسانة مثلك .. كان يمنحني كثيراً من التفاؤل والأمل..
هل تعرفين؟
قبل أيام فقط من غيبوبتك..
كنت أخطط أن نجتمع في منتدانا الأدبي .. لأني كنت في شوق لحديث يثري عقلي وقلمي مع أمثالك..
كنت أعقد النية على أن أتواصل معك ومع بقية الزميلات لنجتمع...
كنت أشعر بأن روحي متعبة .. وأني بحاجة .. إلى الحديث مع أناس يروون عطش الروح من أمثالك..
لكني .. أجلت الاجتماع للإجازة..
ولم أعلم .. أن الله قدر رحيلك قبلها..
سبحان الله...
حتى رحيلك يا هديل..
كان شاعرياً .. حالماً .. مثلك..
رحلت كأميرة نائمة..
كطفل غفا في حضن أمه .. واستلذ نومته .. فلم يفق..
لطفت بمشاعرنا..
ولم تفاجئينا برحيلك..
بل اخترت أن تهدهدي آلامنا .. خمسة وعشرين يوماً..
قبل أن ترحلي في هدوء..
كنت دائماً .. مختلفة..
ورحيلك كان كذلك..
أحبك هديل..
ولن أنساك بإذن الله..
أعلم أن الدموع لا تكفي .. ولا الكلمات..
لكني أحاول أن أقول لك أشياء .. كان لابد أن أقولها .. ولو متأخراً .. يا رفيقة القلم..
كلمات .. أتذكرها كلما قلبت أرقام جوالي .. ووجدت اسمك..
وتمنيت لو كنت قلتها لك قبل ذلك..
سأدعو الله يا هديل .. أن نلتقي على باب الجنة..
سأدعو الله أن أراك هناك..
وندخل سوياً..
ونستمتع بالنظر إلى وجهه عز وجل..
وهناك .. أقول لك كل ما قلته هنا..
* * * *
اللهم اغفر لغاليتي..
اللهم ارحمها..
اللهم تجاوز عنها..
اللهم اغسلها بالماء والثلج والبرد .. ونقها من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس..
اللهم اجعل قبرها روضة من رياض الجنة..
اللهم آميييين..
نوف الحزامي ،،
**
المصدر: مجلة حياة العدد (98) جمادى الآخر 1429هـ
(5)
هديل مرَّت من هنا ..
حقنت في أوردة المكان جرعة ضميرٍ ..
ورحلت.
وبقيت آثار أقدامها تمتد بهدوءٍ نحو الأفق..
إلى عتبات الجنة.
لم تكن طيفاً أو حُلماً ..
كانت مجرد روح .. طافت سريعاً فوق ذواتٍ أنهكتها مسارات الحياة الرديئة ..
ألقت من علٍ باقاتٍ صدقٍ وأمل ..
وتلت بيقينٍ رسالتها الخالدة إلى الله ..
ثم توارت فجأة كما هطلت فجأة ..
لم تكن ثمّة حاجة لمعرفة هديل، حتى تشعر بوخز الألم يتسرب بطيئاً إلى دواخل نفسك الغائرة، حتى الأعماق ..
هناك روح تجلّت في كل الأمكنة ..
وسيرةٌ مشبعةٌ بكل تراتيل الثناء ..
ولأن عَبَق الأشياء الجميلة لا يزول عندما يغيب الجسد ..
ولا يختفي ساعة تتلاشى أوزان الفيزياء ..
ولا ينقص حين تتضاءل إحصاءات السكان..
ثمّة كيمياء مختلفة يُحسب بها عمر الإنسان..
معادلاتٍ لا يدخل في ثناياها تعداد السنين..
ولا عدد الشعرات البيض في مفرِق الرأس..
ولا تدور تروس الأرقام في مَكَنَتِها إلاّ لحساب أزمنة السعي وراء خلاص الإنسانية المُتعبة، وخطوات اللهاث خلف قاطرة المجتمع
رغبة في دفعها باتجاه الحُلم ..
بهكذا حسابٍ صادقٍ لعمرٍ البشر ..
هديل عاشت عمراً مديداً ..
أكثر مما نطمح أن نعيش ..
نواف القديمي ،،
(6)
هديل
كنتِ ترتدين زيّاً ذهبياً هادئاً وجميلاً جداً..
لكنه يقلّ بكثير عن تألق ملامحك الصغيرة..
وحضورك المحبب.. ووضاءة وجهك..
حدثتني عما حدث لك مؤخراً.. عن نشاطاتك الجديدة.. وتحدثنا كثيراً..
تلك كانت المرة الأخيرة التي رأيتك فيها..
أما الأولى..
فهي التي لم ولن أنساها..
كان ذلك قبل حوالي خمس سنواتٍ مضت..
كنت مرتبكة.. أحضر للمرة الأولى نقاشاً أدبياً راقياً من هذا النوع، كنتِ وعائشة القصير تتجاوران في المقاعد حول الطاولة الكبيرة..
تتغامزان.. تضحكان.. بينكما إشارات خفية.. تتحدثان بطلاقة عجيبة..
كانت نوف الحزامي تتحدث عن الحرص على التفاصيل في القصص القصيرة أنه مهم جداً.. التفتت لي وقالت: وأنت يا سارة.. ما رأيك..؟
نظرتِ نحوي حينها يا هديل..
كانت المرة الأولى التي تريني فيها..
ابتسمتِ.. وبادلتك الابتسامة..
أتذكرين.. أني انشغلت بابتسامتك حينها أكثر من أي طرح كان حول تلك الطاولة..
تعجبت من تدفقك.. من خفتك.. من انتقالك الرشيق من محور لآخر..
وشد انتباهي مطولاً.. إلمامك بكل ما تقولين..
أنت تتحدثين دوماً.. تتحدثين بشكل متتابع ومحبب.. بطريقة شغوفة وجميلة وطفولية وناضجة بنفس الوقت.. لكنك.. لا تتحدثين أبداً.. لمجرد الحديث.. كنت تتحدثين دوماً.. وأنت الواعية لما تقولين حرفاً حرفاً..
ما زلت أحتفظ حتى الآن بقائمة الكتب التي اقترحتِ أن نقرأها..
لا تزال لدي تلك المفكرة التي كتبتِ عليها بخط يدك.. إيميلك الشخصي تطلبين مني التواصل معك..
وحين عدت للبيت، وتحدثت مع أختي كثيراً عنك، قالت لي: أنت كنتِ تتمنين لقاء هديل يا سارة.. فكيف بدت لكِ؟
قلت لها: أصغر مني.. وأشرت لجسدي.. لكنها أكبر.. وأشرت لرأسي..
ومرت أيام تلو أيام..
كنت في كل مرة أتصل فيها بك، لأطلب سرعة إنجاز موادك، وتسليم ما تبقى لديك.. أتعجب كيف تمتصين امتعاضي؟ كيف تجعليني أضحك بشدة ولو كنت في ساعات الصباح الأولى؟ تعلقين على صوتي.. على سخطي حين أرتبك في ترتيب المواد..
كنت في كل مرة أراك فيها في اجتماع أو لقاء أو أي شيء كان.. أراك تعطين لكل موجود حقه، تتحدثين مع الكل.. تضحكين مع الجميع.. وفي قلبك مكان لكل الناس..
فكيف يا هديل؟
كيف لا يكون لك في كل قلب مكان..
كيف لا تختصر كلمات الحنين والشوق.. كلمات الصدق والحب.. لتكون قلبك.. قلبك فقط؟
كنتِ أجمل من أي أحد، أبيض من كل روح، أشفّ من أي رقيق..
لكِ دنياك البهيجة التي لم تكن كأي دنيا..
لحرفك زهو.. ولكلماتك وقع..
كنتِ مطراً وغيمات..
كنتِ هديل المختلفة.. هديل التي أتابعها لأعرف ماذا يجري في العالم..
هديل التي أقرأ لها لأعرف كيف يفكر كل الناس..
هديل التي أضاءت في عقلي قنديلاً.. وتركته..
تركتِه يا هديل..
لأنك هناك..
في العالم الأبيض المخضرّ..
في العالم الحقيقي، حيث يجب أن تكون روحك سعيدة..
هناك أنتِ الآن.. في جوار الرحيم، في ضيافة الكريم..
وما زلت حتى الساعة..
لا أستطيع إخفاء حنيني الشديد..
أشتاق إليك يا هديل...
وأفتقدك..
وأدعو حتى ليخال إليّ.. أني سأراك..
أشتاق إليكِ..
أشتاق إليكِ..
سارة الخضير،،
(7)
روحانية الـ “هديل“
إذ أفكر بالأمر الآن، أنتبه إلى أن أول اتصال بيني وبين هديل حدث وهي تدافع عن (حق فكري)!
كان اسمي وقتها (لوفار)، عمري 19، وأكتب بحذر شديد في منتدى (بنات)؛ منتدى أنشأته طالبات في كلية الحاسب والترجمة، تعرف عضواته الرئيسة أسماء بعضهن البعض، لكن يتعاملن مع الآخرين بأسماء مستعارة.
ذات يوم نشرتُ باسمي المستعار قصة سبق وأن ظهرت في صحيفة الرياض باسمي الصريح.
هديل، المتابعة الحريصة لملاحق الثقافة والأدب، ظنت أن (لوفار) تسرق (عائشة)، وأغضبها ذلك. لكنها في الوقت نفسه لم تشأ أن تبادرني باتهام مباشر دون التوثق، كما لم تشأ أن تحرجني أمام الآخرين. بعد حيرة شديدة راسلتني على (الخاص) لتقول بذكاء شديد: (سبق وقرأت قصتك يا (لوفار) في صحيفة الرياض، وأعجبتني، أتمنى أن أتعرف إليك).
لأن قصتها المنشورة في المنتدى، (الوجار) أعجبتني، ولأني كنتُ جداً وحيدةً في عامي الجامعي الأول، ولأن فكرة اللقاء بشخص إنترنتي تحمل شيئاً من المخاطرة اللذيذة، قررتُ أن ألتقيها. لاحقاً عرفت أن لقاءنا الأول، إنما كان محاولة بوليسية للتعرف إلى لوفار التي سرقت عائشة. لقاء جعل صيف جامعة الملك سعود وشتاءه، دائماً خارج المعطف، معطف اسمه شخصٌ لا يتركك للوحدة أبداً. تلك هديل.
لا أذكر مرةً استشعرتُ فيها أن هديل مألوفة، أو مكررة. لها خاصية الناضجين في الحب، والأطفال في الحياة. تُحب كأم قد اتزنت عندها رغبةُ التملك مع رغبة الإيثار. وتعيش كطفلٍ مهمته الوحيدة على الأرض: أن يستطلع كل شيء حوله.
هي التي عرفتني إلى (جسد الثقافة)، (التدوين)، (جوجل)، (تويتر)، (ماك)، و(أروى)... هل قلتُ أروى؟ نعم، أروى. أختها التي تصغرها بأعوام قليلة، لكنها تملك رأس (كرة أرضية). تقول هديل، (أخجل من طفولتي، حين أقارنها بنضوج أروى).
أروى الفنانة البصرية تذوقاً والتقاطاً، والموسوعة العلمية، والتاريخية، الطاهية التي يخرج الطبق الأبيض من باب مطبخها بمعايير الطهاة العالميين، والمتابعة الرياضية الفائقة.
هديل وأروى، حين يستضيفان أحداً إلى منزلهما، يجلسان على جانبيه. تمسك كل منهما الجهة الأخرى من النقاش. لا أذكر بيتاً سوى بيت هديل وأروى، يمكن أن تجلس فيه أختان على جانبي الضيف، يتكلمان كأنهما يلتقيان للمرة الأولى، ويختلفان كأنهما يختلفان للمرة الأولى، ويتفقان كأنهما يتفقان للمرة الأولى. لكنهما كذلك بالفعل، تتجددان في نظر بعضهما البعض باستمرار، وعندما تدخل إحداهما إلى حجرتها فإنها بالضرورة تخرج بشيء جديد، فكرة، معلومة، صورة، رأي... في بيتهما، لا يشكل الإسراف هاجساً للسيد (الوقت).
بعد لقائي الأول بهديل جمعتنا مواطن عديدة.
الجامعة. مجلة حياة. العالم الإلكتروني. مكتبة الملك عبد العزيز. الفعاليات الأدبية والثقافية.
غرفتها! على يد هديل، كسر أهلي قانونهم الأول (البنت ما تروح لبيوت الناس دون مرافق). فأصبح بيت هديل من دون البيوت حلالاً مُباحاً. وفي كل مرة ألتقيها لم تكن إلا جديدة، مطلعة، شغوفة بالتكنولوجيا، ومهتمة بالمحلي والعالمي. الوقتُ معها طمأنينةٌ للروح، ورواءٌ للعقل.
تقرأ (هدهدة) كثيراً. تعامل كتبها بحرص فائق.
هواياتها الهادئة، بعيداً عن الاستعمال اليومي، الرسم، التصميم، الشعر، وأخيراً المسرح. هي ذواقة نابهة، وفي الآن نفسه كاتبةٌ تفهم جيداً متطلبات الأجناس الكتابية المختلفة: ما بين الشعر، السرد، المسرح، التدوين، هديل تعرف كيف تعجن (صلصال) اللغة لكي يكون تماماً على مقاس المكان. رغم أنها أصغر مني بعام، إلا أن هديل أنضج مني بكثير على مستوى العاطفة. قالت لي ذات يوم تعقيباً على قصصي في "حياة"، (لماذا تكتبين عن المشاعر وكأنها تستوجب التوبة؟)
يحبها الناس لأسباب كثيرة، كثيرة. وأنا أحبها لأنها أكثر من عرفت مرونةً، وأقلهم محاكمة للآخرين.
هديل نضجها العاطفي يجعلها تفرق بين أن تحب الشخص لأنها ترتاح إليه إنسانياً، وبين أن تعمل مع الشخص لأنها تتفق معه في الأهداف والرؤى.
وكما اسم مدونتها (باب الجنة)، هديل تتطلع إلى الأعلى باستمرار، وبروحانية عالية. عندما تذهب إلى المدينة، أو مكة، تدخل في رسائلها بهجة تشبه بهجة الحوت الذي آب أخيراً إلى الماء. يصبح لصوتها، وحرفها، سلاسة من يجول في موطنه الأصلي، تبهره ألفة الضوء، ونعومة الليل، وألفة الطريق.
بدأت هديل سلسلة صعودها الروحاني إلى الله وأنا بعيدة. عندها أربكني السؤال، (لماذا قبل شهرين فقط من الآن، بدأت هديل كتابة ذكريات حياتها بإخلاص شديد؟) قالت لي عندما بدأت، (امرأة أعرفها، أصابها الزهايمر، فبدأت ترمي ذكرياتها القديمة على العابرين دونما وعي. أريد أن أسلم ذاكرتي طواعية من الآن). ومن ذاك الوقت.. وهديل تعكف كل ليلة على إنجاز هذه الكتابة.
أثمة روحانية أكبر من هذا؟!
عائشة القصيَّر،،
(
”هديل” .. حين ترحلين
صوت الإمام وهو يكبّر الأولى، فالثانية.. ثم ثالثة يتبعها شهيقٌ وبكاء.. ودعواتٌ تعلو وتنخفض..
كان هذا اللقاء الأخير بكِ، والوداع الأخير أيضاً..
ترتفعُ الأصوات.. ويكثر البكاء.. وفي بالي،
صورتكِ.. منذ دقائق المعرفة الأولى، وحتى لقائي الأخير بكِ، قبل غفوتكِ بأسبوع.. أسبوع كنت فيه الأوفر صحةً، ممتلئة بالعافية والحياة.. انصرفتِ بعده على وعدٍ بلقاء.. قريب.. لم يصدق..!
أفيقُ صباح الجمعة على رسالةٍ مفجعة.. مفجعة بكل ما يعنيه فقدكِ من معنى، وحد حبسها للدموع، فلم تنطلق، إلا حين وقفتُ على باب أمي.. أردد بذهول: هديل ماتت..!
ثم انفجر بركان الدموع، وما توقفَ، وزاده ضجيج المسجد، حتى الأطفال فيه يبكون.. يبكونكِ كما نفعل..!
* * * *
رحلتِ.. تاركةً خلفكِ استفهاماتٍ ذاهلة.. وسؤالاً يتكرر كلما سمعتُ (هديل ماتت).. أو (أحسن الله عزائكم).. هل ماتت حقاً..؟
هل يمكن لهذه المفردة.. التي نسمعها ونقرؤها ونشاهدها، نعيشها معنا بشكلٍ يومي.. أن تصبح الأقسى، حين تتعلق برحيلِ صديقةٍ كأنتِ.؟
كيف يرحل الأصدقاء..؟ وكيف يموتون.؟ شعورٌ مرّ جربته حين غبتِ.. يحملُ بينه سؤالاتٍ عدّة، كيف نعزّي أحداً في من نُعزّ..؟
اعتدتُ أن أعزّي أشخاصاً فيمن يحبون.. في أهاليهم وإخوتهم، لكن أن أعزّي في صديق، فهذا فوق ما أطيق..!
يضجّ المسجدُ.. وفي كل دمعة، أرى وجهك.. وتهزّني ذاكرةٌ وذكرى..
لقائي الأول.. والصدفة الجميلة التي جمعتنا..
مساءات الماسنجر وثرثرته، ويوم تخرجي الذي لم يذكرني فيه إلاّ بروحين.. كنتِ أحدهما، احتفالكِ الجميل بي رغم كل الظروف..
الكتب التي كانت تأتي وتروح.. مرسالنا فيها جامعة وقريبة ومواعيدٌ تضربُ منذ ليلة تسبقها..
معرض الكتاب الذي كنّا فيه، والأمسيات التي ضحكنا فيها على عثرة مقدمها.. أو غطرسته..
أخباركِ الصغيرة والكبيرة التي نتشاركها، نضحكُ على بعضها.. ونحزنُ على أخرى.. ونفتش في قوقل عن آخر المستجدات، والأخبار..
الأصدقاء الذين نملكهم.. ويسألون كل ذات غياب..
سرّي وسرّك...
وهاتف الجوال الذي يقتلني الآن كلما وقعت عيني فيه على مراسيل قديمة.. لا أقوى على محوها، أو إزهاق روحكِ فيها ولو رحلتِ.. ولو غابت بنا الأيام.. نحتسبكِ عند الله أيتها النقيّة الطاهرة..
أحسن الله العزاء لذاكرةٍ تتمزق بتفاصيل حملتها سنينُ معرفتك..
ولأماكن كانت لنا فيها ذكرى وحدث..
ولموعدٍ قريبٍ كان بيننا سبقني فيه إليكِ القدر..
ارقدي بسلامٍ آمنة مطمئنة.. راضيةً مرضية، لا يرحلُ من نحبّ إلاّ جسداً.. يغيبون.. تنطوي بهم الأيام.. لكنهم أحياء في ضمائرنا، وذاكرتنا.. ذكرى بذكرى. كلما مررنا على الأماكن، وكلما تكررت أمامنا المفردات التي حكيناها.. وفصول الحياة المختلفة..
ستبقين حيّة.. تمرّين طيفاً جميلاً كل جمعةٍ..
قبل أن تغربَ شمس يومه، تحصدين الدعوات الصادقة..
ستبقين حيّة.. حاضرة، شمساً لا تغيب..
مرام الموسى ،،
(9)
نعم هديل .. افتقدناك!
(كانت كنفحةِ الطيب تماماً: شذيَّةً، جريئةً، جميلةً.. لكنها لم تدم طويلاً..)
* * * *
في صباح مورقٍ نديًّ في أوائل عام 1426هـ ، وفي قاعة ندوات عامة في جامعة الملك سعود بعليشة، كنت أجلس في الخلف مع العزيزتين: آلاء الزومان وآلاء باهبري، نستمع إلى تلك الندوة الثقافية عن العنف الأسري، ثم أقبلت إلينا فتاة تبدو على صفحات وجهها براءةٌ وبساطةٌ وودٌّ، وأخذت مكانها بين الآلاءتين محيَّيةً بمرحٍ: (هلا والله.. فقدتوني؟!) ابتسمنا جميعاً وأنا لم أعرفها بعد، ثم قدمتها إلي آلاء الزومان: (منال.. هذه هديل الحضيف!)!
غمرتني بهجةٌ.. وكان اللقاء الأول..!
في ذلك الصباح.. وبعد الندوة، سعدت بجلسةٍ حميمةٍ لا تنسى مع تلك الحمامة، شدني إليها تلقائيتها ونقاؤها، وحسن حديثها، وسعة ثقافتها، وعمق إحساسها وتذوُّقها لكل ما هو جميلٍ..
كجمال روحها تماماً..
لا أنسى يومها جولتنا في بهو قسم التربية الفنية المزين باللوحات الزيتية البديعة، وقد كانت (الهديل) مرشدتنا، وقفنا معها أمام كل لوحةٍ وقد بدت كصديقةٍ حميمة لها، واستغرقت تقرؤها لنا بلغةٍ من وجدان وشعور..
تبادلنا الأرقام، ثم عرفتها – بعد هذا اللقاء – من بعيدٍ، لكنها ظلت قريبةً مني بمواقف سخاءٍ وجودٍ، وخبيئة عمل أرجو لها عند الله القبول والرضا..
لقد أحبت هديلُ (الجمال) و(النقاء) و(الإحسان).. فرحلَتْ..
وطارَت الحمامة إلى (الجمال) الأبدي، و(النقاء) السرمدي، و(الجود) الذي لا ينفد..
تركت لنا هديل بعد رحيلها قصة جميلةً جميلةً.. لكل جيل الشباب، تعلمهم فيها كيف يغدو المرء في أصيل شبابه، فكراً معبراً وثفافةً فعَّالةً وضميراً متوقَّداً، وصداقةً مخلصةً مع كل أطياف الوطن، لم يستطع سوادٌ عظيمٌ من الناس أن يصنعها في عقود، وفعلتها هديل في سنوات كحلمٍ مرَّتْ..
تعلمنا هديل، أن العمرَ لا يقاس بـ(كم سنةٍ عشت).. ولكن.. (كم كفاً بذلت؟!).. ورحلت وقد تركت لنا مجموعة قصصية بديعة، ومسرحية معبرة، ومدونة جميلة، ورأياً خالداً، وذكرى عذبة في قلب كل من عرف هديل.. ومن لم يعرفها..
فأي شابة فعلتها من قبل؟!
إلى جنان الخلد أيتها العزيزة، إلى ربًّ رحيم طالما ناجيته بابتهالٍ وقربٍ، وإلى درجات أبرار عسى أن تعرجي إليها بخصال حسنة وفؤاد نقي.. وكفى بربك رحيماً..!
* * * *
والدنا د. محمد الحضيف، علمتنا الحزن حروفاً، وأبكيتنا في قصصك خيالاً، ثم شاء الله أن تكون قصة (هديل) – رأي العين – جسداً من حزن وعيوناً من دموع..
فكان الله معكم آل الحضيف، وأفرغ على قلوبكم الصبر والتسليم، وكتب لكم بيت الحمد وصلوات ورحمة وهدى..!
منال الدغيم ،،
(10)
إلى هديل: وتبقين (ضيّا)
هديل .. أنا أكتب لكِ لأشفى، السنوات التي جمعتنا، الاجتماعات، الكتب، الروايات، الحوارات الطويلة.. التدوين.. المنتديات.. المراسيل.. جوالاتنا المتشابهة.. كل شيء يا هديل يشي بك.. كل شيء يقول يا هديل أنك لم ترحلي.. لأنك عظيمة والعظماء لا ينتهون بانتهاء حياتهم..
لن تكوني وحيدة يا صديقتي، هناك في قبرك وفي انتظار (باب الجنة) الذي سيفتح للمؤمنين.. سيؤنسكِ قرآن ربك الذي تحبين.. دعواتنا.. صلواتنا لأجلك.. كلها تأتيك هدايا في هذا الليل المخيف!
نحنُ أولى بالعزاء.. نحن اللائي نموت في هذه الدنيا دون أن نفطن لاستلاب أعمارنا منّا..
نمضي دون أن نترك أثراً.. مثلك لا يموت ولا يشيخ ولا ينتهي يا هديل..
مثلك رواية جميلة لا تنتهي بموت البطل، بل تبدأ بغيابه.. غيابه الذي يخلق الفارق في القصة..
إلهي رضينا.. وحمدنا.. وشكرنا.. فأنل قلوبنا وقلوب والديها وأهلها الرضوان والسلوى، وامنح هديل بما صبروا جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.. تشرب من مائها فلا تظمأ أبداً..
هديل كففت يد حزني عنكِ.. لأني أشتاق إليكِ.. وكلما غادرنا أهلونا وأحبابنا كلما اقتربنا من النهاية خطوة.. لا بأس.. مزيداً من الخطوات لأجل الجنة.. لأجل لقياكِ ولقيا الأحبة هناك.. مزيداً من الصبر..
مزيداً من الرضا!
في الجنة لا نفتقد ولا نحزن ولا نبكي..
في الجنة نلقاكِ دوماً.. كما أنتِ.. بيضاء نقية.. حمامة وادعة.. تحمل رسالة عظيمة.. ولا تنساها..
في الجنة نلقاكِ مصحوبة بدعوات الطيبين وبكاءاتهم لأجلك هديل.. كنتِ تترنمين (إلهي أعدني إلى وطني) وقد أعادكِ الله لوطنك.. فوطنك في الأعالي يا صديقتي الوديعة.. وطنك الجنة – بإذن الله -.
آلاء الزومان ،،
(11)
خمسة وعشرون عاماً
كم مرة التقيت بك صدفة..
مرتين.. ثلاثة.. لا أعلم.
تبادرين.. سلاماً خجولاً وتمضين.
عندما علمت بأنك دخلت في غيبوبة، لا أدري ما الذي جعلني أنبش ذاكرة مدونتك، هل كنت أبحث عن آخر سطورك، أم كنت أتساءل بيني وبين نفسي عن إذا ما فكرت في مصير كهذا. والله لا أدري!
فوجئت بما خطته أصابعك على ذاكرة الصفحات الإكترونية.
ذلك الكلمات التي جعلتني أفكر كثيراً وكثيراً جداً.
كان ذلك قبيل ذكرى ميلادك الخامس والعشرين بيوم واحد.
يومها كتبت بأنك تتمنين أن تعيشي ستين سنة.
وهذا يجعلك تعيشين منتصف العمر ما بين الخامسة والعشرين وبين الثلاثين.
وأمك سوف تدللين نفسك في هذه السنوات الخمس لأنك.... في منتصف العمر!!!.
ولم يدر في بالك لحظة أنك كنت تعيشين آخر أيام العمر.
وأنك لن تكملي أياماً بعد ذكرى ميلادك حتى يبتلعك ظلام الغيبوبة وخواؤها.
ولن تعيشي شهراً بعد يوم ميلادك الخامس والعشرين.
يا للقدر،،
كم يخطر في صورة غريبة لا قبل لنا بفهمها.
ما الذي جعلك تكتبين تلك الأسطر في ذلك اليوم؟
ولماذا قبيل عيد ميلادك الخامس والعشرين وليس قبله بسنة مثلاً؟
كأنك كنت تكتبين سطور وداع غريبة، عصية على الفهم، تقولين فيها إنه ليس كل ما يتمنى المرء يدركه، وتحذرينا من الغفلة، ومن سطوة الأقدار على الأعمار.
أتعلمين؟
وكيف لك أن تعلمي؟!
جاءني خبر وفاتك عبر رسالة في لحظة كنت فيها أعاني أشد وعكات المرض.
جاءني ليعطيني شرعية الحزن والانطفاء.
كأن سبباً واحداً للحزن ليس كافياً.
لحظتها..
أول ما خطر في بالي أن أرفع يدي للسماء وأدعو لأمك وأبيك بالصبر على مصابهما فيك.
فلن يوجع فراقك قلب كما قلبيهما.
ليرحمك الله يا هديل.
وليجعل مثواك قرب الصالحين والأبرار.. آمييين.
لبنى ياسين ،،
(12)
ورحلت هديل
هل حقاً رحلتِ هديل!؟
كلما يطوف بي اسمك تقفز إلى ذاكرتي ابتسامة عريضة، وضحكة جميلة يصورها وجهك البريء...
عرفتك هنا في المجلة.. زميلة طموحة.. ودودة..
وُلدتِ..
ترعرعتِ.. أبدعت.. ألفتِ.. دونتِ.. أثّرتِ..
انتشرتِ..
فأحبك الناس وأحببتهم.. ثم..
بصورة مفاجئة..
رحلتِ!
كل ذلك في 25 سنة..!
وهكذا العظماء..
انتهت قصة قصيرة بطلتها هديل..
عزاؤنا.. أنك حزمت متاعك إلى رب غفور ودود..
واسترحت من دنيا الكَبَد..
إلى باب الجنة بإذن الله..
هند السويلم ،،
(13)
دمعة على هديل
منذ سنوات جاءت لتعزيني.. وها أنا الآن أعزّى فيها.. هكذا بدأت قصتي معها..
كان لقائي الأول بها في اجتماع حوى ذكريات عديدة.. منها قصة وفاة أختي.. وقولها لي: أنا أختك أيضاً...
بدا بيننا تآلف عجيب.. وكأنه من سنوات، أصبحنا نتبادل الآراء والأفكار ونتحدث عن هموم الحياة بعفوية، تستوقفنا أحداث نفكر بها بمنطق العقل والعاطفة.
وحكت لي عن بدايتها بالقراءة وهي تضحك بقولها:
عندما كنت طفلة.. كنت أبكى لوالدي عندما يطلب مني قراءة أي كتاب، وأطلب منه أن يحضر لي كتباً فيها تشكيل للنص. حركات وعلامات ترقيم. فكان يضطر لوضعها لي قبل أن يعطيني أي كتاب.
هذه هديل من طفولتها تعشق القراءة وتبدع في الكتابة..
عرفتها صادقة نقية حتى جاءني خبر نقلها إلى المستشفى دون سابق إنذار.. وبعد ذلك وفاتها. رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.
ذكرتك فأنهالت لذكراك أدمعي
غزاراً وفاء للذي عشت تمنح
نوال العلي ،،
(14)
زوارق النور
رحلت هديل.. جورية رقيقة.. محمولة على أكتاف المحبين.. مبللة بدموعهم.. ومحفوفة بآلاف الأكف المتضرعة إلى الله، الداعية بأن يتغمدها الله برحمته.. ويعوضها نعيماً لا ينفد.. وقرة عين لا تنقطع..
رحلت هديل.. فاهتزت قلوبنا ألماً.. ولم نعد نملك من أمر دموعنا إلا تأملها وقت الهطول..
غير أن الدموع لا تكفي لكي نعبر عما تخفيه جوانحنا من حب لمن رحلوا..
ولا تساوي ثمناً لزوارق النور التي خلفوها لنا كي نعبر بها نحو جزر الخير والسعادة..
كانت هديل..
مثالاً حياً.. ولا يزال حياً.. للفتاة الطموحة التي أبدعت ولم تدّع القيود.. أو تتمرد على الحدود..
وأثبتت هديل..
أن العطاء أبلغ أثراً.. من طول البقاء..
وعلمتنا هديل..
أن الغد قد لا يتسع لآمالنا.. إن لم نبدأ ببنائها اليوم..
ونبهتنا هديل..
إلى أن علينا أن ننسج مستقبلنا من خيوط الشمس لننقذ فجراً يكاد يغرق في الظلام.
إنها منارة لكل فتاة قررت أن تحلم..
وصحوة لكل فتاة تكبرها بالأعوام.. وتصغرها بالعطاء..
رحلتِ يا هديل جسداً.. وكلنا راحلون..
فمن الذي يستطيع أن يخلد ذكراً طيباً.. وعملاً نبيلاً لمن يبقى بعده؟
إلى كل من يحب هديل:
عطاؤها درس فلنستفيد منه؛ ليكون لها عملاً صالحاً مستمراً..
ولنا سلماً يصعد بنا وبأمتنا وأوطاننا.. إلى العلياء..
رحمك الله يا هديل.. رحمة واسعة.
هناء الحمراني ،،
(15)
هديل التي أعرفها
عندما أجريت قلمي أريد الكتابة؛ سبقتني دموعي.. وطاش عقلي جزعاً،
كل ما كتبته كان بصعوبة تبلغ عمق الفجيعة..
وبالكاد استطعت أن اكتب ما كتبته..
فالمعذرة..
* * * *
ماذا تعرفون عن هديل؟؟
صوت مدونتها؟ ضجيج حكاياتها؟ سيرة أعمالها؟؟
هذه ليست كل (هديل)
هديل هي تلك الدافئة، والتي تسابق بسمتها كل تفاصيل حياتها،
هي تلك الطيبة الذكر.. الحسنة القول..
هديل التي ضربت مثلاً في البر بوالديها..
وجدت ذلك في ثنايا حديثها عنهم، وتبجيلها لأعمال والديها الكرام،
هديل...
هي تلك الجميلة الحضور.. جميلة الروح.. جميلة العطاء.
وماذا بعد؟؟
أرقني أن أكتب عن (هديلنا)
وضجت مشاعر (الفقد)
فهل تستقيم لي كلمات؛ والكل يهتز فؤاده عند ذكر فقدها؟
وسؤال لم يبارح خلدي:
أي علاقةٍ تربطها بالله.. حين جعل لها كل هذا القبول؟؟
وأي سر يخبئه قلبها الصغير؛ تقرباً للذات الإلهية؟
ودعتنا دون أن تخبرنا إياه؛ لأنه لم يكن
سوى خبيئة قربان تقدمه بين يدي خالقها،
ولكل هذا رحيلها لم يكن أي رحيل..
هديل رحلت لتوقظ قلوباً غفت كسلاً، وغفلت رجساً.
فأي رحيل مبارك كان؟
وأي زهرة غرستها وهي تغادرنا؟
إيه يا هديل...
حمامة روحك نشرت سلامها في حياتها؛ لتغادرنا بيضاء الفؤاد..
لنستودعها رحمن الدنيا والآخرة..
طبت يا حبيبة حيةً وميتة..
وسقانا الله صبر فراقك..
أسماء البشري ،،
(16)
هل يرحل الهديل؟
(مهداة إلى د/ محمد الحضيف عزاءً في وفاة ابنته هديل)
هل يرحل الهديلْ؟
تأجّج السؤال حينما سمعتُ الخبر..
يَمُور في دمي
ملتهباً كالجمر في فمي
هل يرحل الهديلْ؟
قد يرحل الحَمام لا يَعُود
يفارق الوجود
من بعد أن يُسمعنا هديله الجميل
من بعد أن يغرس في قلوبنا مشاتل الهديلْ
شامخة كأنها سوامقُ النخيلْ
يغيبُ عن عيوننا الحمام
يلفّه الضياء في عالمه الفسيح
ونحن في عالمنا يلفنا الظلام
يستأنس الأُفق به، هناك يستريحْ
وبيننا وبينه الغمام
قد يرحلُ الحمام
مُغرّداً في صمتنا بصمته البديع
مُسافراً عن أرضنا..
في دوحةٍ أقامْ
هناك حيث يسكن الرّبيع
وتسكن الأرواح في سلام
هناك.. حيث لا شتاءُ لا صقيع
ولا شظايا وجعٍ يُطلقها اللئام
هل يرحلُ الهديل؟
قد يرحل الحمام والطيورُ كلّها..
ويرحلُ المدى
ويرحل الصباح والزّهور والنّدى
وفي الفؤاد يمكث التغريد والصّدى
ويمكث الهديل في مسامع الزّمنْ
لأنّ صوته الشجيّ في القلوب قد سكن
قد تُبتلى النجوم بالأفول
وتبتلى الأشجار بالذبول
فترحل الغابات والحقول
وترحلُ الفصولْ
الصيفُ والشتاءُ والربيعْ والخريف
قد تسقط الأوراق من غصونها
وتبرأ الرياحُ من جنونها
وفي مسامع الحياة يمكُثُ الحفيف
قد تصدأ السيوفُ في أغمادها..
وفي مسامع الإباء يمكثُ الصّليل
كذلك الحمام، يغيبُ عن عيوننا..
وفي قلوبنا الهديل..
كأنني بقبّةٍ لُؤلؤةٍ مجوّفة
برحمة الله الذي أبدعها مُزخرفةْ
تقول للأم التي بكاؤها احتدمْ
للأب الذي يسكنه الألم:
هُنا، هنا سيسكنُ الهديل
فاعتصما بالخالق الجليلْ
وأَسْكِنا قلبيكما صَبرهُما الجميل
شعر: د. عبد الرحمن العشماوي ،،