من أكبر الغزوات التأديبية التي
قادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ضد أعراب نجد بعد غزوة
الأحزاب وبني قريظة وقبل غزوة خيبر ، وقد سميت بغزوة ذي قَرد لأن الماء
الذي نزل به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقال له : ذو قرد .. وتسمى
كذلك بغزوة الغابة ، إشارةً إلى موضعٍ قرب المدينة من ناحية الشام فيه شجر
كثير ، وهو المكان الذي أغار فيه المشركون على إبل رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ وهي ترعى فيه ..
لم تكد تمضي ليال قلائل على عودة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته لبني لحيان ، حتى أغار عيينة بن حصن
الفزاري في جماعة من قومه غطفان على لقاح (إبل ذوات لبن) للنبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ كانت ترعى ، وقتلوا رجلا وأسروا امرأة من المسلمين ..
وعندما سمع سلمة بن الأكوع
ـ رضي الله عنه ـ ما حدث ، صاح منذرا الناس ، وظل بمفرده يطارد المغيرين ،
وكان ـ رضي الله عنه ـ أسرع الناس عدواً ، حتى أدركهم على رجليه ، وجعل
يرميهم بالنبل ، وكان رامياً ، ويقول :
خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع (هلاك اللئام)
ثم توالت سهامه عليهم وهو يطاردهم وحده
، حتى ألقوا بالكثير من متاعهم التي أثقلتهم عن الهروب ، وكانوا كلما
ألقوا شيئا وضع عليه علامة كي يعرفها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وأصحابه .. واستمر على ذلك حتى استنقذ منهم بعض الإبل ، وثلاثين بُرْدة
(كساء) وثلاثين رمحا ..
لحق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن معه من الصحابة بسلمة بن الأكوع بذي
قرد ، واستعادوا الإبل كلها بعدما قتلوا من المشركين الكثير ، ثم عاد
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة وقد أردف خلفه على ناقته سلمة ـ رضي الله عنه ـ ، وأعطاه سهمين ، سهم الفارس وسهم الراجل ، وأثنى عليه قائلا : ( خير فرساننا اليوم أبو قتادة ، وخير رجالتنا سلمة ) رواه مسلم .
أما المرأة التي أسرها المغيرون من غطفان ، فقد عادت سالمة إلى المدينة
بعد أن تمكنت من الإفلات من القوم على ظهر ناقة لرسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ، وقد نذرت إن نجاها الله لتنحرن تلك الناقة ، فلما أخبرت
النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نذرها تبسم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال
: ( بئسما
جزيتها ، أن حملك الله عليها ونجاك ثم تنحرينها ، إنه لا نذر في معصية
الله ، ولا فيما لا تملكين ، إنما هي ناقة من إبلي ، فارجعي إلى أهلك على
بركة الله ) رواه أحمد .
وفي أثناء رجوع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه إلى المدينة حدثت مسابقة في العَدْوِ بين سلمة ـ رضي الله عنه ـ ورجل من الأنصار ، يقول سلمة ـ رضي الله عنه ـ : ( .. وكان
رجل من الأنصار لا يُسبق شداً ، قال : فجعل يقول : ألا مُسابق إلى المدينة
، هل من مسابق ؟ ، فجعل يُعيد ذلك ، قال : فلما سمعت كلامه قلتُ : أما
تكرمُ كريماً ولا تهاب شريفاً ، قال : لا ، إلا أن يكون رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ ، قال : قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأُمي ذرني فلأسابق
الرجل ، قال : إن شئت ، قال : قلت : اذهب إليك وثنيتُ رجلي فطفرت فعدوت ..
فسبقته إلى المدينة ) رواه مسلم .
لقد كانت غزوة الغابة (ذي قرد) من أكبر الغزوات التأديبية التي قادها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ضد أعراب نجد ، وفي مطاردتهم وإيقافهم
عند حدهم ، لنشر الأمن والسلام في الدولة الإسلامية وما حولها ، وتأديب
المعتدين .. وهذه الغزوة ـ رغم صغرها عسكريا إلا أن فيها ـ كبقية الغزوات
والسرايا ـ من الفوائد الكثير، منها :
شجاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومبادرة الصحابة عند النداء للجهاد وشجاعتهم ، خاصة سلمة بن الاكوع ـ
رضي الله عنه ـ الذي قاوم بمفرده جَمْعا من الكفار وأرهبهم ، واستنقذ منهم
ما سرقوه من إبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بل وأخذ منهم بعض الغنائم
، ومن ثم كرمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معنويا وماديا ، فأثنى عليه ،
وأعطاه سهمين من الغنائم ، وحمله خلفه على ناقته حتى عاد إلى المدينة ،
وفي ذلك فائدة هامة وإشارة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لتكريم أصحاب
الهمم العالية ..
قال ابن حجر
في حديثه عن بعض فوائد هذه الغزوة : " .. جواز العَدْو الشديد في الغزو ،
والإنذار بالصياح العالي ، وتعريف الإنسان نفسه إذا كان شجاعا ليرعب خصمه
، واستحباب الثناء على الشجاع ومن فيه فضيلة ـ لا سيما عند الصنع الجميل ـ
ليستزيد من ذلك ، ومحله حيث يؤمن الافتتان ، وفيه المسابقة على الأقدام ،
ولا خلاف في جوازه بغير عِوَض ، وأما بالعِوَض فالصحيح لا يصح .." ..
وكذلك من فوائدها : بطلان نذر المعصية ،
أو النذر فيما لا يملكه الإنسان ، وحلم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وسماحته في تبسمه حينما نهى المرأة أن تنحر ناقته التي نجاها الله عليها ..