التأديب.. لا يعني العقاب
لابد أن يعلم الآباء أنه مهما بلغ الأب من حلم وسعة صدر تجاه أبنائه، وصبر على أخطائهم، واستنفاذ جميع السبل في التعامل معهم، ففي بعض الأحيان يصبح حائرًا في التعامل مع أبنائه، (فيجد الأب نفسه مضطرًا إلى استخدام الضرب لحمل الأبناء على السلوك الطيب، ولابد أن نقول إن لجوء الأب والمربي للضرب دائمًا فهو دليل على نقص قدراته في مواجهة المشكلات، بل قد يصل أن يكون هذا دليلًا على ضعف شخصية المربي) [اللمسة الإنسانية، محمد محمد بدري، ص(431)].
بين حيرة الآباء وعناد الأبناء:
يظل التفاعل بين الآباء والأبناء في طبيعته ما دام الأبناء لا يتصرفون بحمق، ولا يفعلون السلوك الحسن، ولكن تبدأ العلاقة بين الأب والابن تأخذ منحنى خطير في العلاقة التربوية بين الوالد وولده، حينما يبدأ الأب في تغيير سلوك ولده بالقوة، فيبدأ الولد في العناد ومن ثم تتوتر العلاقة الأبوية بين الأب وابنه.
وهناك بعض الأسباب التي تحول دون استجابة الأبناء لتوجيهات الآباء عندما يبدأون بإرشادهم للسلوك الحسن، ومنها:
1. التطبيق الكامل للسلوك التربوي:
وعلى الجانب الآخر تجد بعض الآباء يفخرون بأن آباءهم وأمهاتهم قد ربوهم أفضل تربية، ولذلك يجب على هذا الأب أن يحذو حذو أبيه في تربية الأولاد، فسواء كانت هذه التربية التي تلقاها الأب صحيحة أم خاطئة ستجد أنه يحاول قدر استطاعته أن يطبق نموذج والده في التربية.
وهذا الأسلوب قد يكون جيدًا إذا ما كنا نريد الاستفادة من خبرة الآباء في التربية وتجاربهم الناجحة، ونأخذ نقاط التميز في تربيتهم لنا، ولكن الخطأ كل الخطأ أن نجعلهم معيار الصواب مطلقًا، ذلك لأنهم في النهاية بشر معرضون للخطأ، وليس من المعقول أن نتابعهم على أخطائهم.
2. آراء خاطئة من قبل الآخرين:
سواء كانت من الجد، أو الجدة، أو العم، أو العمة، أوالخال، أوالخالة، كل على حد سواء، فالكثير منهم لا يتوانى عن التعليق وإبداء رأيه فيما يظن أنه الحل الصحيح، وسواء كان هؤلاء الأشخاص ـ أصحاب النية الحسنة ـ من أقارب الطفل أو من الأصدقاء أو الغرباء، فسوف يكون لتدخلهم أثر كبير علينا وعلى طفلنا بلا شك، فمن هذه الآثار مثلًا أن هؤلاء الأقارب لهم طريقة معينة في التربية، هذه الطريقة قد لا تصلح مع أبنائنا، بل ربما تأتي بنتائج لا يحمد عقباها فيما بعد.
3. التعميم الخاطئ:
التعميم في التربية أمر يجب على الآباء أن يحذروا منه، فبعض المربين يعتمد مبدأ التعميم في التعامل مع السلوكيات السيئة التي تصدر من الطفل، فلا يفرق بين الخطأ لأول مرة، وبين الخطأ المتكرر أو المعتاد، ولا يفرق بين الخطأ العمد وبين الخطأ غير المقصود، ولا يفرق بين المراحل السنية المختلفة، ولا بين الذكر والأنثى، ولا بين العنيد والمطيع.
إن من الأشياء الهامة في التربية أن يأخذ الأب في اعتباره أن الأطفال جميعهم ليسوا قوالب واحدة، ولكن هناك الكثير من الاختلافات في القدرات والإمكانات بين الأطفال، كذلك في كيفية إدراكهم للأمور، فما يصلح مع هذا الابن قد لا يصلح بتاتًا مع هذا بل قد يأتي بنتائج عكسية.
4. آلام الماضي:
قد يكون بداخلك عزيزي المربي بعض الذكريات السلبية القوية خاصة بالطريقة التي تربيت بها كأن كان والدك يصفعك على وجهك، أو يقوم بحبسك في غرفتك، وقد تكون قد عزمت على تجنب كل هذه الطرق سواء كانت صحيحة أو خاطئة، وبالتالي فأنت تربي أولادك بخلاف الطريقة التي تربيت بها؛ لأنك تظن أن أباك كان مخطئًا في تربيتك.
وهذه الطريقة في التفكير قد تكون سليمة إذا أراد المربي أن يتجنب زلات والده التي وقع فيها معه فلا يتكرر نفس الخطأ مرة أخرى مع أولاده، ولكن الخطأ أن يصدر من الطفل سلوك سلبي ولا يتفاعل الأب مع هذا السلوك لمجرد أن أباه كان يتفاعل مع ذلك السلوك، ونتيجة لهذه المخالفة المطلقة للمسلك التربوي الذي تربى به الوالد في صغره ـ حتى وإن كان إيجابيًا ـ لا يتعلم الطفل السلوك الحسن ويظل على سلوكه السيئ.
5. نسيان التغافل عن بعض الأشياء:
إن ابن العشرة أشهر الذي يستمتع بإلقاء الأشياء من فوق الكرسي؛ سرعان ما سوف يكبر ويبلغ الثامنة عشر شهرًا، ويصبح قادرًا بما يكفي على فهم السلوكيات الخاطئة.
ولذلك فإن التحدي الذي يواجهه الأهل هو تحديد الوقت المناسب لتشجيع الأبناء على اتباع السلوك النموذجي، وتعلم فن التغاضي عن السلوكيات التي يفعلها الطفل في مقتبل عمره؛ لأنه في هذه المرحلة لا يعي أنه يرتكب سلوكًا سيئًا، ولذلك لا بد من الصبر الشديد على الطفل في هذه المرحلة وعدم كبت حريته، مع مراعاة المحافظة على سلامته.
6. وجهات نظر مختلفة في التربية:
في بعض الأحيان قد يرى الأب سلوكًا سيئًا قد لا تراه الأم في الوقت نفسه كذلك، وما تراه الأم سلوكًا سيئًا قد لا يراه الأب كذلك، وذلك بسبب اختلاف الأسس والأساليب التي تربى عليها كل منهما، وهذا يكون سببًا للشقاق بين الزوجين، واندلاع الصراعات بينهما أمام الطفل، فيرى الطفل بعدها أنه السبب في المشاكل التي تحدث بين أبيه وأمه، فلابد للأب والأم حينما يختلفان حول أمر خاص بالأبناء يجب أن يكون ذلك بعيدًا عن مسمع الأولاد، حتى لا يشعر الولد أنه قد تتسبب في توتر العلاقة بين والده ووالدته.
7. وجود الغضب أثناء الإرشاد:
ومن ضمن الأخطاء التي يقع فيها كثير من الآباء الفضلاء؛ أنهم يعلمون أبناءهم السلوك الحسن في لحظة غضبهم، فيكون هذا التوجيه مصحوبًا بالصراخ ورفع الصوت والعبوس والضرب والسب في بعض الأحيان، وكل هذا يقبِّح لدى الطفل السلوك الحسن ويجعله أمرًا غير مستساغ، لأن الرابط الذي تكوَّن في عقله الباطن مع السلوك الحسن هو الضرب والصراخ والعقاب.
فهل يعقل أن يتعلم الطفل السلوك الحسن وأبوه يصرخ في وجهه ويوبخه، فالسلوك الحسن شيء إيجابي، والطفل عندما يتعلمه يجب أن يكون المناخ الذي يتعلمه فيه مليء بالتشجيع والثناء والمدح، وإن كان هناك عتاب فليكن العتاب الجميل الذي به يفهم الطفل أنه يجب أن يكتسب هذا السلوك الحسن.
كيف تغرس في ولدك السلوك الحسن؟
ـ من الأشياء التي تجعلك تبتعد عن العقاب والضرب لتعديل السلوك السيء وإكساب السلوك الحسن، التغذية الراجعة الإيجابية، وهي تعليقك على أفعال ولدك، فعندما يقوم ولدك بفعل شيء حسن، تثني عليه وتشجعه، بل في بعض الأحيان تعطيه جائزة على ذلك، وكذلك تكون التغذية الراجعة فعالة في التقليل من السلوك السيء.
فالتغذية الراجعة في غرس السلوك الحسن تكون عبر التشجيع والتعزيز فاعلم أيها الوالد أن (عبارات التعزيز تقول "نعم" للكينونة الداخلية لشخص ما، فإنها تعد نموذجية في بناء تقدير الذات عند الطفل، ويتم توصيل الإحساس بأن شخصًا ما على ما يرام إلى المستوى الداخلي عن طريق عبارة التعزيز) [قوة الحديث الإيجابي، دوجلاس بلوك بالتعاون مع جون ميريت، ص (83)].
(إنه من السهل استخدام التغذية الاسترجاعية الإيجابية وأصعب شيء فيها هو تذكر البحث عن السلوك الجيد، فغالبًا ما نبحث فقط عن السلوك السيئ لأولادنا، ونتجاهل الوجود الفعلي للسلوك الجيد، ولا نعتبره تقدمًا سلوكيًا، فكن سابقًا لردود فعلك، قم بتدعيم السلوك الجيد بإخبار أولادك أنك تقدر تصرفاتهم الجيدة، وقم بملاحظة الجوانب الإيجابية في سلوك أبنائك عن كثب؛ وهذا يستدعي التدرب والتمرس، فإذا زدت من التغذية الاسترجاعية الإيجابية ولم تقم بأية تغييرات في سلوكك الأبوي، فسيبدأ أولادك باتخاذ قرارات جيدة تنم عن سلوك سوي) [كيف تكون قدوة حسنة لأبنائك، سال سيفير، ص (42-43)، بتصرف].
وأما عن التغذية الراجعة في التقليل من السلوك السيء، يمكن أن تستخدم لتأتي بنتائج فعالة في ذلك الأمر، يقول سال سيفير: (يمكنك أيضًا عزيزي المربي استخدام التغذية الاسترجاعية الإيجابية، للقضاء على السلوك السيئ أو إضعافه، وهذه الطريقة تجدي مع أنماط من السلوك السيئ الهدام، وليس السلوك السيئ العابر الذي لا يحتاج إلى جهد وعناء في معالجته:
ـ قم بتحديد السلوك السيئ.
ـ قم بتحديد السلوك المضاد) [كيف تكون قدوة حسنة لأبنائك، سال سيفير، ص(43)، بتصرف].
كلمة أخيرة:
إن التوجيه الإنساني يتعامل مع الطفل مراعيًا إنسانيته، فهو مخلوق فريد، أبدع الخالق في تكوينه وتصويره؛ ولذلك يثق المربِّي في قدرات وإمكانات الطفل، بل ولابد لكي تنجح العملية التربوية أن تصل للطفل هذه الثقة فيه.
وهذا لا يعني أن الطفل لن يخطئ، ولكن الأصل هو إعطاء فرصة الاختيار للطفل، وإشعاره بأنه أهل للثقة، أما افتراض سوء الاختيار وبلادة الأداء؛ فهو ما يتنافى مع إنسانية الإنسان، ويتناقض مع براعة التصوير والخلق التي أودعها الله في الكائن البشري.
وهذا يدفع المتربين إلى البحث عن جوانب القوة أكثر من بحثهم عن جوانب الضعف، لاعتقادهم أن للإنسان قدرات كامنة وإمكانات هائلة، يمكن الاستفادة منها في مجالات مختلفة، ولا يصلح أن يكون كل إنسان كالآخر، بل لكلٍّ إمكاناته وقدراته وأهميته في الحياة.
المصادر:
• كيف تكون قدوة حسنة لأبنائك، سال سيفير.
• قوة الحديث الإيجابي، دوجلاس بلوك بالتعاون مع جون ميريت.
• اللمسة الإنسانية، محمد محمد بدري.
المصدر: موقع مفكرة الإسلام