أميز ما يتميّز به مذهب السّلف في سائر الأبواب أنّه متسالم مع كافّة أشكال التّحليل الفكري والمنطقي والنفسي.
المتمسّك
بمذهب السّلف في أيّ بابٍ شخصٌ كفى نفسه معارك وحروبًا لا تنتهي بين ما
يعتقده ويؤمن به، وبين مسلّمات ويقينيات عقلية أو فكرية أو حتّى نفسيّة.
كلّ
من ينحرف عن مذهب السّلف يضع نفسه في غمرة بحر من التناقضات والتضاربات
لا يكاد يستقرّ على فكرة إلاّ ونقضتها فكرة أخرى، ولا يكاد يستقر على مذهب
في باب من الأبواب إلاّ وتعارض مع باب آخر، ولهذا قال واحد من أذكيائهم:
«أضطجع على فراشي، وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين أدلة هؤلاء وأدلة
هؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي شيء»، والأدلة الّتي يقصدها هي نتاج
أفكار الخارجين على الوحي، حتّى ابتكر بعض الساقطين فكرة تكافؤ الأدلّة،
وصدق الله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً).
ولهذا
تجد أكثر العلماء إنتاجًا فكريًا وثراءً معرفيًا وأنفعهم هم أهل السنّة؛
لأنّهم توقّفوا عن ولوج مساحات كفاهم فيها الشرع، ووظّفوا طاقات الإبداع
والابتكار في المساحات العمليّة ذات الثمرة، فأنتجوا وأثروا.
واحد من أهمّ أبواب المذهب السلفي هو عقيدتهم في الإيمان، تعريفه، تصوّره، طبيعته، أجزاؤه، فساده وصلاحه..
ولأنّ
مبدأ الاعتقاد هو التصوّر.. فإنّ السّلف وأتباعهم جعلوا تصوّراتهم تابعة
لما يصوّره الوحي، ومن ثمّ بنوا اعتقاداتهم عليها؛ فتوافق عندهم العقل
والنقل..
أمّا المخالفون لهم فقد تشعّبت بهم الأهواء الرديّة ما بين غالٍ وجافٍ..
تصوّر السلف للإيمان ومن ثمّ اعتقادهم منطلق من الحقائق الواقعية الملموسة ذات الشوّاهد المتعدّدة اليسيرة التناول. تعالوا لنتأمّله:
قال
أئمّة السّلف: إنّ الإيمان ذو شعب، وقد يوجد بعضه ويذهب بعضه، كسائر
المركّبات الّتي تتشابه أجزاؤها، بل وحتّى كثير من المتفاوتة أجزاؤها؛
فالشجرة يُقطع بعض أجزائها وتبقى شجرة وإن كانت ناقصة، والجسد يذهب بعض
أجزاؤه ويبقى اسم صاحبه إنسانًا كان أو حيوانًا.
ولهذا
قالوا إنّ الإيمان الشرعي مركب من أجزاء، كلّ منها داخل في حقيقته
وماهيّته الشرّعية، وإن كان بعضها أهمّ وأجلّ من بعض، بعضها يقوم بالقلب
كالتصديق والخوف والمحبة وغيرها من أعمال القلوب، وبعضها يقوم باللسان
كشهادة التوحيد والذكر وقراءة القرآن، وبعضها يقوم بالجوارح كالصلاة
والصّوم ونحوها، وعبّروا عن ذلك بقولهم: الإيمان قول وعمل، أو: قول واعتقاد
وعمل.
وهذا صريح قوله صلى الله عليه وسلّم: «الإيمان
بضعٌ وستّون شعبة؛ أعلاها: شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّدًا رسول
الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطّريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان».
وبناء
عليه قالوا: إنّ الإيمان قد يذهب بعضه ويبقى بعضه، فتذهب بعض الشعب وتبقى
الأخرى، لا يلزم من ذهاب شعبة الزّكاة أن تذهب الصلاة، ولا يلزم من ترك
شعبة إماطة الأذى ذهاب شعبة لا إله إلاّ الله.
ومن
ثمّ قالوا: لا يزول إيمان المؤمن ولا يذهب كلّه إلاّ إذا ترك ما هو أصلٌ
في الإيمان كالتّوحيد مثلًا بإجماعهم، وقال كثير من السّلف بتكفير تارك
الصلاّة، كذلك بناء على ما جاء في السنّة بشأنها، وجاء عن بعضهم تكفير تارك
المباني الأربعة.
وقالوا: إنّه قد يوجد شعبة من شعب الكفر والنفاق في المسلم مع أنّ لديه أصل الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلّم: «أربعٌ
من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةٌ منهنّ كانت فيه خصلةٌ
من النّفاق حتّى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر،
وإذا خاصم فجر»، وقد ثبت في الصّحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال لأبي ذر: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية».
وقالوا: إنّ فاعل الكبيرة الذي مات مصرًا عليها تحت مشيئة الله؛ لأنّه تعالى يقول: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ).
لكنّه
مع هذا لا يستحقّ وصف الإيمان بالإطلاق، بل يقال: مؤمن ناقص الإيمان؛
لأنّه شخصٌ فقد بعض شعب الإيمان الواجبة فنقص إيمانه، فلا يستحق وصف
الإيمان المشعر بالكمال والتّزكية، لكنه لا يُسلبَه بالمرة؛ لأنّه ما زال
لديه أصل الإيمان وهو التوحيد.
أو يطلق عليه لفظ مسلم؛ لأنّ لفظ «مسلم» غير مستلزم للمدح المطلق، كما قال تعالى للأعراب: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا)، ولمّأ قال سعد بن أبي وقّاص للنبيّ -صلى الله عليه وسلّم- عن شخص إنّه مؤمن قال له النّبيّ: «أو مسلم».
لكن لا يستحق لفظ الإيمان بإطلاق؛ لأنّه كما قلنا ارتكب ما يتناقض مع كماله، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلّم: «لا يزْني الزّاني حين يزْني وهو مؤمنٌ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمنٌ، ولا يسرق السّارق حين يسرق وهو مؤمن»
أنّه في حالة وقوعه في الكبيرة خرج من حالة الإيمان؛ لأنّ من آمن بالله
وبثوابه وعقابه واستيقنه لا يمكن أن يفعل الكبيرة وهو مستحضر هذا الإيمان،
بل يغيب عنه كما يغيب العقل عن شارب الخمر.
ولمّا
سلّموا أنّ الإيمان ذو شعب يزول بعضه، ويبقى بعضه عرفوا أنّ ذلك يلزم منه
أنّه شيء قابل للزيادة والنقصان تبعًا لزيادة الأجزاء المكوّنة له عند
كلّ إنسان بحسبه، أو نقصها لديه.
فمن صلّى وزكّى وصام وحجّ ليس كمن فعل ذلك وزاد الجهاد والبر والصلة..
ولمّا
قال عمير بن حبيبٍ رضي الله عنه: «الإيمان يزيد وينقص»، قيل: وما زيادته
ونقصانه؟ قال: «إذا ذكرْنا الله فحمدناه وسبّحناه فتلك زيادته، وإذا
غفلْنا ونسينا فذلك نقصانه».
وهذا معنى مثل قوله تعالى: (ويزْداد الّذين آمنوا إيمانًا). [المدّثر:31] وقوله: (فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). [آل عمران:173].
ثمّ
إنّهم عرفوا أنّه ما دام الإيمان ذا شعب عديدة مديدة أنّه لا يمكن أن
يحصّل الإنسان فيه منزلة الرّضا عند الله؛ لأنّه ما من إيمان إلاّ وفوقه
إيمان، ولأنّ المؤمن دائمًا يخشى على نفسه من النقص، فإنّه لا يزكي نفسه
بوصف الإيمان، وإذا اضطر لذلك فإنّه يستثني فيقول: مؤمن إن شاء الله، وهذا
منسجم مع تصوّرهم للإيمان كما قلت، فهم تصوّروه ذا شعب عديدة، فلم
يتصوّروا الوصول للكمال فيه فاستثنوا، وهكذا وصفهم الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ). [المؤمنون:60] وقد قالت عائشة: يا رسول الله، أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف؟ فقال: «لا يا بنت الصديق، بل هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، ويخاف أن لا يتقبل منه».
ثمّ
إنّهم قالو: إنّ شعب الإيمان وإن كانت متعددة ومتباينة، إلاّ أنّها
مترابطة، يتضمن بعضها بعضًا ويستلزم بعضها بعضًا، وينتج بعضها عن بعض؛
فالشعب الظّاهرة تنتج عن الشعب الباطنة، توجد بوجودها، وتقوى بقوّتها،
وتضعف بضعفها، وتزول بزوالها.
فإنّ
القلب إذا عمره الإيمان والمحبة والخوف والرجاء ظهر أثر ذلك جليًّا على
البدن بالعمل الصالح وهجر السيئات، وإذا ظهر على العبد ترك الفرائض والوقوع
في المحرمات دلّ على ضعف ما في القلب من الإيمان، وإذا زال الظّاهر دلّ
على زوال الباطن، وهذا أمر لا يختصّ بالإيمان بل بكلّ الصفات البشريّة..
فإنّ الشّخص لا يمكن أن يقبل دعوى المحبة من شخص يكيد له ويمكر به..
كما لا يمكن أن يصدّق شخص دعوى شخص بالكراهية، على الرغم مما يحوطه من عطف ورعاية..
فالظواهر دلائل السرائر.. وهكذا قال الله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ). وقال تعالى: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ
يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ
مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). فجعل الاتباع والجهاد دليلًا وعلامة على المحبّة، وهي من مكنونات القلوب، لابدّ لها إن وجدت من فروع تظهر على البدن.
ومن جهة أخرى قال عن المنافقين: (وَلَوْ
كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُون). [المائدة:81] فنفى عنهم الإيمان بالله والنّبيّ لوجود ما يتناقض مع هذه الدعوى، وهو تولي الكافرين.
والآن،
لاشكّ عندي أنّ كل الجمل الّتي قلتها سابقًا لم تلق لدى العاقل أيّ نوع
من التضارب الفكري أو العقلي.. فالحقيقة الشرعية والحقيقة العقلية
والروحية منسجمة غاية الانسجام في مذهب السّلف في الإيمان.
أمّا
الّذين تنكّبوا الصراط، فاضطربت كلماتهم، وتفرقت أهواؤهم، فشرّق بعضهم
وغرّب بعضهم، ومن أعجب العجب أنّهم على رغم تباين وتناقض مذاهبهم، إلاّ
أنّهم يتفقون على التصوّر الفاسد الّذي مزّقهم كلّ ممزّق.
فإنّهم
تصوّروا الإيمان ماهيةً واحدة، وشيئًا واحدًا، لا يمكن تفرّق أجزائه، بل
إمّا أن يوجد كاملًا أو يذهب كاملًا، وبناء عليه قالت المرجئة: بما أنّ
الرسول -صلى الله عليه وسلّم- لم يكفّر أصحاب الكبائر، فهذا يعني أنّ
الأعمال ليست داخلة في حقيقة الإيمان؛ لأنّها لو كانت كذلك لذهب الإيمان
بذهابها، ولكفّر النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- شارب الخمر والزاني، ولم يقم
عليهم الحد، ثم يصلي عليهم.
أمّا
الخوارج فوافقت المرجئة على التصوّر الفاسد، وخالفتهم في التطبيق،
والتزمت أنّ فاعل الكبيرة كافر مرتد خالد في نار جهنّم، واتفق معهم
المعتزلة في حكمه في الآخرة، لكنّهم في الدّنيا لم يقولوا بكفره، ولا
إيمانه، بل قالوا هو في منزلة بين المنزلتين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
«أصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية
وغيرهم أنّهم جعلوا الإيمان شيئًا واحدًا، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا
ثبت بعضه ثبت جميعه.
ثمّ
قالت الخوارج والمعتزلة: الطّاعات كلّها من الإيمان فإذا ذهب بعضها ذهب
بعض الإيمان فذهب سائره، فحكموا بأنّ صاحب الكبيرة ليس معه شيءٌ من
الإيمان.
وقالت
المرجئة والجهميّة: ليس الإيمان إلاّ شيئًا واحدًا لا يتبعّض، إمّا مجرّد
تصديق القلب كقول الجهميّة، أو تصديق القلب واللّسان كقول المرجئة،
قالوا: لأنّا إذا أدخلْنا فيه الأعمال صارت جزءًا منه، فإذا ذهبتْ ذهب
بعضه، فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول المعتزلة والخوارج».
ولمّا
التزموا هذه المقدّمة الباطلة فرّعوا عليها أقوالهم الباطلة في الإيمان:
فقالت المرجئة: الإيمان قول بلا عمل، ومرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان،
وأنّه لا يزيد ولا ينقص، والناس متساوون في إيمانهم أفجر الخلق وأتقى
الخلق متساويان في الإيمان إذا أقرّا واعتقدا، وحرّموا الاستثناء في
الإيمان؛ لأنّه عندهم مجرد التصديق، ومن استثنى فقد شكّ ومن شكّ فقد كفر.
وبضدّ أقوالهم هذه قالت الخوارج والمعتزلة وكفّرت المسلمين واستحلّت دماءهم وأموالهم.
وداخل
كلّ من المذهبين فروع متضاربة ومتناقضة، ثمّ تجد الفقهاء منهم يقعون في
أغلاط فقهية بسبب التزامهم هذه الفروع التي تقوم أصلًا على ذلك التصوّر
فاسد، ومن ذلك مسألة انفصام الظاهر عن الباطن، حتّى تصوّر بعضهم أنّ الرّجل
يُستتاب من ترك الصلاة أو سبّ الشيخين أو غير ذلك، ثمّ يصرّ على قوله،
ويقتل ثم بعد ذلك يمكن أن يكون مؤمنًا بباطنه فيُغسل ويُصلّى عليه، وتصوّر
بعضهم أنّ سابّ النّبيّ -صلى الله عليه وسلّم- قد يكون مؤمنًا بباطنه،
وأنّ من كفر بلسانه وامتنع من النطق بشهادته أنّه يحكم بكفره في أحكام
الشرع، لكنّه قد يكون مؤمنًا بباطنه، و مرة أخرى أقول: صدق الله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً).
بقيت مسألة المسائل:
إنّ
الإيمان كما تقرّره النّصوص الشّرعيّة ليس كائنًا جامدًا يملكه العبد،
فيظلّ كما هو لا يتغيّر حتّى يفقده، كلاّ، بل الإيمان ـ كما قلنا سابقًا ـ
يشتمل على العلم والمعرفة والتّصديق، وعلى عمل القلْب والجوارح، وهذا يعني
أنّ الإيمان صفةٌ متحرّكةٌ، لا تثبت البتّة، لسببٍ مهمٍّ للغاية، ألا
وهو: أنّ الإنسان لا يعيش وحده، بل الإنسان يعيش في عالمٍ متغيّرٍ، تتوارد
عليه الأحوال المتتابعة الّتي تجرّه إلى التّفاعل معها رغمًا عنه ما دام
حيًّا.
والحيّ
من صفته الإحساس، وما دام الإنسان حيًا فإنّه يشعر ويتحسّس من كلّ ما
يحدث حوله، وهذه الأحوال والمتغيّرات يتفاعل معها الإنسان إمّا سلبًا أو
إيجابًا، فيرتفع بسببها إيمانه ويزيد تارةً، وينخفض وينقص تارةً أخرى.
بل
إنّ خاصّة المخزون الإيمانيّ للمؤمن أنّه إذا بقي بلا تأثيرٍ ولا حركةٍ
فإنّه ينخفض وينقص، مثله مثل الطّاقة البدنيّة، فإذا لم يأكل الإنسان نقصت،
وإذا نقصت ضعف فاحتاج إلى الطّعام.
وكذلك
الإيمان، فإنّ خاصّته النقصان، فيحتاج المؤمن إلى التعذية الإيمانيّة
للبقاء في مستوًى إيمانيٍّ معيّن، ويحتاج لها أيضًا للزّيادة إلى مستوياتٍ
أعلى، كلّ ذلك بحسب همّته وطموحه، ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثّوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدّد الإيمان في قلوبكم».
وهذا
صحيحٌ واقعيّ يجرّبه الإنسان من نفسه، وإذا كان هذا عرفْنا ـ بل تيقّنّا ـ
أنّ العبد المؤمن لابدّ له من التأثّر في إيمانه بزيادةٍ أو نقصانٍ، فإذا
ذكر الله وتقرّب إليه أو تفكّر في خلقه وشرعه زاد إيمانه، وإذا غفل ونسي
وشغل بغير الله أو ارتكب ما نهى الله عنه نقص إيمانه.
ومن
هنا نعرف أنّ العبد لا يمكن أن يظلّ في حالةٍ واحدةٍ ثابتةٍ لا يتغيّر
حاله مهما قيل من إيمانه بل وكفره، وهذه حقيقةٌ أكّدها القرآن، أعني أنّ
الكافر نفسه لا يبقى في حالةٍ واحدةٍ من الكفر، بل قد يزيد أو يقل، قال
تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ
ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً
لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً). [النساء:137] ، وقال: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ).
[التوبة:125]، وهذا يعني أنّ السّلف حين تكلّموا في باب الإيمان تكلّموا
من خلال النصّ الشّرعي، الّذي يتناول الحقيقة في باب الإيمان من جانبٍ
يعلم تمامًا حقيقة خلق الإنسان في بدنه وروحه وطبيعته البشريّة: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
[الملك:14] ولهذا جاء مذْهب السّلف منضبطًا، مثاليًا، واقعيًّا في نفس
الوقت، أمّا المرجئة فجاء طرحهم تجريديًا بعيدًا عن الواقعيّة، مغرقًا في
الخياليّة والتصوّر.
فإذا
كان الذّهن يتخيّل ويتصوّر أمورًا تجريديّة، منزوعةً من لوازمها السّابقة
و الّلاحقة، فإنّ الواقع لا يقبل هذا البتّة؛ فالمرجئة عندما عرّفت
الإيمان بأنّه التّصديق، تعاملت معه كتعريفٍ ذهنيٍّ تصوّري، ثمّ بدأت
تعتقد أمورًا تصوّريةً صرفة، كقولها مثلًا بعدم زيادة الإيمان والتّصديق،
وقولها بعدم جواز الاستثناء، وقولها بأنّه شيءٌ واحدٌ لا يتغيّر، وأنّ
إيمان الخلق كلّهم واحدٌ؛ النّبيّ والفاجر فيه سواءٌ، ما دام مصدّقًا أو
عارفًا، وكلّ هذه الأقوال كما ترى قد يتصوّرها الذّهن ويجيزها، لكنّها في
الحقيقة الخارجيّة عدمٌ محضٌ لا وجود له.
تمامًا
كما افترض المتكلّمون ذاتًا مجرّدةً عن الصّفات، ثمّ بدؤوا يصدرون
أحكامًا في ذات الله تعالى، مثل نفْي الأسماء والصّفات، فقال من قال من
السّلف مقولتهم المشهورة: المعطّل يعبد عدمًا؛ لأنّ الحقيقة الواقعيّة
تحيل أن توجد الذّات منفصلةً عن الصّفات.
وكذلك
فعل المتكلّمون في الإيمان، فتعاملوا معه تعاملًا تصوّريًا وأصدروا
أحكامًا في الإيمان يمكن أن نقول ـ وبكلّ ثقةٍ ـ إنّه على تعريفهم وقولهم
في الإيمان: لا يوجد في الحقيقة إيمانٌ ولا كفْرٌ البتّة.
ولهذا يقول المرجئة: إنّ المؤمن اليوم هو هو بعد سنة ما دام معه الاعتقاد والقول.
أي
أنّهم يتصوّرون وجود شخص كامل الإيمان إيمانه على حالة واحدة من الكمال
رغم أنّه يقع في الموبقات.. وهذا ليس راجعًا إلى إهمالهم لمنزلة الأعمال،
بل راجع إلى ضلالهم في تصوّر حقيقة الإيمان الشرعية، وأنّه قول وعمل، لا
كما تصوّروه.
بينما
يقول السّلف كما قال حنظلة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: « لقيني
أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله
ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله -صلى الله عليه و سلم- يذكرنا
بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله
عليه و سلم- عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا، قال أبو
بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول
الله -صلى الله عليه و سلم- قلت: نافق حنظلة يا رسول الله. فقال رسول الله
صلى الله عليه و سلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكّرنا
بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج
والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «والذي نفسي بيده، إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة».
إذا
فقهنا هذا عرفنا حجم تلك المسألة ذات الصيت الكبير والفائدة القليلة،
أعني مسألة «تارك أعمال الجوارح»، تلك المسألة الّتي ظلّت سنوات عديدة
مثار جدل ونقاش عميق – وعقيم – حول ما إذا كان تارك عمل الجوارح مسلمًا أو
كافرًا، تحت المشيئة أو مقطوع له بالخلود في جهنّم.
وكنت
قد تبنّيت من خلال كتاب لي صدر عام 1418هـ -القول بأنّ تارك عمل الجوارح
يبقى تحت المشيئة، لأنّه لا يعدو أن يكون من أهل الكبائر الّذين اجتمعت
كلمة السّلف على أنّهم تحت المشيئة، علمًا أنّي قرّرت في الكتاب منهج السلف
في أنّ الإيمان قول وعمل، وأنّه يزيد وينقص وغير ذلك.
بينما
ذهب جلّة أهل العلم في المملكة إلى أنّ هذا القول – أي نجاة تارك العمل -
من أقوال طائفة المرجئة، وهم الّذين قالوا بأنّ الإيمان قول واعتقاد فقط،
وأنّ العمل ليس داخلًا في حقيقة الإيمان الشّرعي.
وقال
هؤلاء العلماء - الذين من جملتهم أعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء وعلى
رأسهمّ قرّة عيون الموحّدين ودرّة تاج العلوم السلفيّة الشيخ عبدالعزيز بن
باز -رحمه الله- وأنزله منازل الصديقين – إنّ القول بأنّ تارك عمل الجوارح
تحت المشيئة يتناقض مع القول بأنّ العمل من الإيمان، وإنّ القول بركنية
العمل في الإيمان مستلزم لنفي الإيمان والإسلام عمّن ترك العمل بالكليّة،
وأنّ من أثبت له الإسلام إمّا هو من المرجئة الخلّص، أو أنّه قائل بقولهم.
ولاشكّ
عندي الآن أنّ قولهم هو الصّواب، والمسألة برمّتها تنزع إلى الخيال أكثر
من الواقع لو تدبرنا ما قلناه في طبيعة الإيمان، وحقيقته في الشرع.
فقه الوقوف
والآن
أعرف – كما لم أعرف من قبل - أنّه ليس كلّ قول تراه صوابًا يكون كذلك في
نفس الأمر، فضلًا عن أن تتخذه دينًا تخاصم به وعليه وحوله، ثمّ يصبح راية
تلتف حولها مع بعض المعجبين والأتباع والأصحاب فيتخذ الآخرون رايات
يلتفّون حولها، ويصبح كلّ منّا يقاتل دون رايته، فإذا انفضّت المعركة لم
يعرف القاتل فيمَ قَتل، ولا المقتول فيم قُتِل!
كما
أنّي أعي أنّه كان الواجب عليّ امتثال وصيّة السّلف الصالح الّتي مثلتها
كلمة الإمام الأوزاعي -رحمه الله- حين قال: « اصبرْ نفسك على السنة، وقفْ
حيث وقف القوم، وقلْ بما قالوا، وكفّ عما كفّوا عنه، واسلكْ سبيل سلفك
الصالح، فإنه يسعُك ما وسعهم».
والوقوف
هنا له معنى أشمل من الوقوف عن التكلم بالخطأ، إنّه يعني الاعتراف بقدر
النّفس وأنّه – في مسائل العقيدة خاصّة- لم تضلّ الأمّة كلّها عن قول
ينفعها.
كم
من المسائل الّتي يستطيع الباحث التوصّل فيها إلى أقوال حسنة في نفسها،
وهي أقوال ربّما يسعها الدليل، لكن أين الدّعم العلمي من قبل أهل العلم
لها؟
ولهذا
لمّا حكى المروزي في تعظيم قدر الصلاة قول الحسن في عدم قضاء الصلاة قال:
«وهذا القول غير مستنكر في النظر لولا أن العلماء قد أجمعت على خلافه».
قبل أن يصبح القول دينًا يدين العبد به ربّه عليه أن يسأل: هل قال به أحد قبلي؟ ومن هو ذلك القائل؟ وما هي ثمرة القول؟
هذا الذي يجب أن يسأل الشخص نفسه قبل أن يتحدث في مسألة يكون منها فتنة واختلاف بين أهل السنّة.
والآن أسأل نفسي سؤالًا: ما الّذي كان سيفوت الأمّة لو أنّي سكتّ عما قلت؟
وما الّذي كانت ستدركه لو أخذت كلّها بقولي؟
ثمّ إنّ المسألة فيها طرف تربوي أصيل عند أهل السنّة، وهو تقديم الكبار..
بمعنى
أنّ طالب العلم إذا عنّ له قول يراه صوابًا فليعرضه على الكبار من أهل
العلم، فإن ارتضوه أو بعضهم على الأقل فحيّ هلا، وإن اتفقوا على تركه -
إمّا لخطئه أو اشتباهه أو عدم نفعه – فأقولها الآن وبصدق من محّصته
التجربة: ما أصعب العيش بعيدًا عن ظلّ الكبار..
رجوع
وعلى
الرغم مما صوّره لي الشيطان، وصوّرته لي نفسي قبل كتابة هذه الكلمات من
شماتة بعض المخالفين، ومن خيبة بعض الموافقين، وما سيشيعه البعض من سوء
الظنّ بالقصد من هذه الكلمات، فإنّي والله لا أجد غضاضة من القول بأني
تاركٌ لكلّ ما قلته في خصوص مسألة تارك العمل الظاهر، وأنّي أرجع إلى ما
اتفق عليه أهل العلم الكبار من الجمل الواضحة البيّنة التي يضرّ خلافها والنقص منها، ولا يضرّ الوقوف عندها وترك ما سواها، وهو ما اتفق عليه أئمّة السلف والخلف من أهل السنّة من أنّ:
الإيمان
قول وعمل، قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، وأنّ هذه أركانه
ومبانيه الّتي يتألف منها ليس شيء منها خارجًا عن حقيقته، ولا يتمّ للإنسان
إيمانٌ، ولا يقبل منه إلاّ بالعمل مع القول والاعتقاد.
والخلاف واقع في كفر من ترك المباني الأربعة وأشهرها الصلاة.
والقول
بتكفير تارك الصّلاة قولٌ معتبرٌ، نسبه بعض الأئمة لجمهور الصحابة، وليس
القائل به قائلًا بقول الخوارج -كما فهم من كلامي في الكتاب- فمن كفّر -من
السلف - تارك الصلاة أو تارك أحد المباني الأربعة فتارك كلّ العمل عنده
كافر من باب أولى.
وأنّ الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالإيمان وينقص بالمعصية، وأعمال القلوب تتفاضل ويتفاضل بها الإيمان الظّاهر كذلك.
وأنّ
الاستثناء في الإيمان جائز، إذا كان واقعًا على العمل، بل هو مستحبّ من
باب عدم تزكية النفس، خلاف ما عليه المرجئة من منع الاستثناء.
وأنّ
مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو هو مسلم كما في حديث سعد،
أو هو مؤمن ناقص الإيمان، إن لم يتب منها ويصلح ما بينه وبين الله تعالى،
فلا نسلبه مطلق الإيمان -كما قال الخوارج والمعتزلة- ولا نثبت له الإيمان
المطلق كما تقول المرجئة.
إنّ
رجوعي عن تبنّي ذلك القول الذي قلته سابقًا وألّفت فيه كتابيّ: «ضبط
الضوابط» و «ترك العمل الظاهر» يأخذ عندي مدًى أكبر من مجرّد الرجوع عن خطأ
إلى صواب، بل هو رجوع عن المشتبه إلى المحكم، وعن مظانّ الفتنة والخلاف
إلى موجبات السنّة والجماعة، فأن تكون ذَنَبًا في المحكم المجمع عليه خيرٌ
من أن تكون رأسًا في المشتبه المختلف فيه.
وقد
اجتهدت في غير معنى، ونافحت في غير ذي جدوى، وأسأل الله تعالى أن يغفر لي
زللي، وأن يريني الحق حقًا ويرزقني اتباعه، والباطل باطلًا ويرزقني
اجتنابه.
والله أعلم بالصواب وإليه المتاب.
د. أحمد بن صالح الزهراني
منقول