السيرة عن خولة بنت حكيم : كُتَّاب السيرة يقولون:
((خولة بنت حكيم, لم تكن تستطيع أن تكون جريئةً إلى هذا الحد، لأنها تدخَّلت في أخصَّ خصوصيَّات النبي عليه الصلاة والسلام، تدخَّلت في حياته الشخصيَّة، لولا أنها رأت من الوَحشة التي خيَّمت على بيت النبي, بوفاة الزوجة الصديقة العزيزة الغالية))
بصراحة: الزوجة الصادقة، الوفيَّة، الصالحة, موتها يهدُّ أركان البيت، والزوج الصالح الوفي, موته يهدُّ أركان البيت، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذاق فقد الزوجة ثلاث سنوات، لأن الله جعله أسوةً حسنة, أذاقه كل شيء؛ أذاقه موت الولد، أذاقه فقد الزوجة، أذاقه زوجةً تكبره بخمسة عشر عاماً، أذاقه زوجةً صغيرة، أذاقه هجرةً من بلده إلى بلدٍ آخر، أذاقه موت أبيه، أذاقه موت أمه، حينما قال الله عزَّ وجل: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾
[سورة الأحزاب الآية: 21]
لولا أن الله أذاقه كل شيء, لما كان أسوةً لنا في كل شيء، أذاقه الفقر: ((هل عندكم شيء؟ قالوا: لا, قال: فإني صائم))
أذاقه الغنى: ((لمن هذا الوادي؟ قال: هو لك، قال: أشهد أنك رسول الله))
أذاقه القهر في الطائف: ((إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي))
أذاقه النصر في فتح مكة: ((ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخٌ كريم, وابن عمٍ كريم, قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء))
النبي عليه الصلاة والسلام تحمَّل من قريش أشدَّ الأذى، ولا سيما بعد وفاة عمه أبي طالب، وبعد وفاة زوجته السيدة خديجة، الزوجة سكن . أدركت هذه الصحابية الجليلة ما يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من الشدائد والهموم، فأرادت أن تخفف عنه بعد ذلك بإيجاد أنيسٍ في بيته . أخواننا الكرام, هناك تعليق لطيف، هذا الذي يستخف بزوجته، ويحلف عليها بالطلاق لأتفه الأسباب، أو يطردها من البيت، أو يعاملها معاملةً قاسية، أو يسب أباها وأمها، أو يهينها ، ماذا يفعل هذا الإنسان؟ يكفر بنعمة الزوجة, يكفر بأشد النعم لصوقاً بالزوج . هذه المرأة التي تستخف بزوجها، يحلف عليها يمينًا فتنقضه، يأمرها فلا تطيعه، يهددها فتتحدَّاه، هذه امرأةٌ أيضاً تكفر بنعمة الزوج: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلاقَ فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ, فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ))
[أخرجه الإمام أحمد عن ثوبان في مسنده]
((لا ينظر الله إلى امرأةٍ لا تشكر لزوجها, وهي لا تستغني عنه))
((إني أكره المرأة تخرج من بيتها تشتكي على زوجها))
فالمرأة إذا رعت نعمة الزوج، والزوج إذا رعى نعمة الزوجة, كانت حياتهما سعيدة، لذلك أنا من خلال ما يُعرض علي من قضايا, ومشكلات بين الزوجين، أعجب أشدَّ العجب، يحلف عليها يميناً بالطلاق, ألاّ تزور أختها، لا يحلو لها إلا أن تكسر يمينه، وتتحدَّاه، وتزور أختها، تجلس عندها ساعة، وقع الطلاق، يتحرَّك الزوج من شيخٍ إلى شيخ من أجل فتوى، ماذا أفعل؟ . لهذه الدرجة زوجك هينٌ عليكٍ، حلف عليكٍ ألاّ تزوري أختكِ، ماذا يمنع أن تنفذي أمره؟ ماذا يمنع أن تمتنعي عن زيارة أختكِ؟ الشيء العجيب بين كل مئة يمين طلاقٍ طلاقٌ مقيَّد غير مُطلق، أي يقول: إن فعلت كذا فأنتِ طالق، بين كل مئة طلاق تسعة وتسعين بالمئة من النساء اللواتي يحلف أزواجهن عليهن يمين طلاق ينقضنه، هذا كفرٌ بنعمة الزوج . لماذا جعل الله الطلاق بيد الرجل؟ لأن المرأة عاطفيَّة، لسببٍ تافهٍ تطلب الطلاق، لكن الزوج يجب أن يفكِّر في الطلاق, بعد دراسة طويلة جداً، وبعد بحث . انظر إلى هذه المعاملة الراقية التي كانت تتعامل بها السيدة سودة مع زوجها النبي : تتم الخطبة، ويعقد الزواج، ويروي الطبري عن هذا الزواج الشيء الكثير، تُزَّف العروس الوقور إلى أحبِّ الناس إليها، لتخفِّف آلام الفُرقة عن نفسه الشريفة، ولتملأ بيته أُنساً بعد وحشة، ولتحمل معه بعض أعباء الحياة، ولتقوم ببعض ما كانت تقوم به الزوجة الراحلة العزيزة خديجة، لقد كانت أم المؤمنين سودة ذات روحٍ مرحةٍ مشرقة .
فالأمر قصير، الدُعابة، واللطف، والطُرفة، والوجه الطليق، والبسمة، والمرح في البيت مطلوب جداً، فهناك أب إذا دخل على أولاده وعلى أهله كان عندهم عيد؛ يهَللون، يفرحون، يتنافسون ليصلوا إليه، وهناك أبٌ إذا دخل البيت كان عبئاً على أهل البيت .
قال:
((كانت هذه السيدة, ذات روحٍ مرحةٍ مشرقة، تسخِّر نفسها الراضية المرضية لإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, وإدخال السرور على نفسه الكريمة .
-الحقيقة: الملاحظ أن المرأة غير المنضبطة، أن المرأة غير الملتزمة، أن المرأة المُنقطعة عن الله، أسوأ ما عندها لزوجها؛ الكلام القاسي، والنظرة المتجفِّية، والهيئة التي لا ترضي، إهمال شأنه، إهمال ثيابه، إهمال زينتها، قسوة كلامها، إهمال شؤون زوجها، فإذا أرادت أن تلتقي بالآخرين؛ تلطَّفت، وتزيَّنت، وتعطَّرت، ولبست أحسن ثيابها، وكانت لطيفةً إلى أعلى درجة، هذه امرأةٌ لا يحبها الله عزَّ وجل، لأن أسوأ ما فيها لزوجها، وأحسن ما فيها لغير زوجها . كانت هذه الزوجة الوفيَّة سودة، تحاول أن تدخل على قلب النبي صلى الله عليه وسلَّم السرور، فكانت تغتنم كل مناسبة لتضحكه وتسرَّه، لعلَّها بذلك تقدِّم بعض الواجبات التي أنيطت بالزوجات نحو أزواجهن وأرباب بيوتهن- .من أمثلة ذلك: ما رواه ابن سعدٍ عن الأعمش عن إبراهيم, قال: قالت سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم: صلَّيت خلفك الليلة، فركعت بي حتى أمسكت بأنفي مخافة أن يقطُر الدم، يبدو أن النبي أطال الركوع, فضحك النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت تضحكه بالشيء أحياناً)) انظر ما قال كتاب السيرة عن هذه السيدة : قال بعض كُتَّاب السيرة:
((ربما كانت هذه الزوجة المسعدة لزوجها تمازحه بكلماتٍ، ويعظها بكلمات .
من ذلك ما رواه ابن المبارك أن سودة, قالت: يا رسول الله! إذا متنا صلى لنا عثمان بن مظعون, حتى تأتينا أنت، فقال لها: لو تعلمين علم الموت يا بنت زمعة, لعلمت أنه أشد مما تقدرين عليه))
أي نوع من أنواع الدعابة، نوع من أنواع الطرافة بين الزوج وزوجته . وقال بعض كُتَّاب السيرة: ((كانت رضي الله عنها مع حبها للمرح والمزاح, كريمة جوادة ، لا يأتيها مالٌ إلا سارعت بإنفاقه على أهل ذي الحاجة))
فقد روي بسندٍ صحيح عن محمدِ بن سيرين, أن عمر بعث إلى سودة بغرارةٍ من دراهم, فقالت: ((ما هذه؟ قالوا: دراهم، قالت: في غرارةٍ مثل التمر، ففرَّقتها))
أيها الأخوة, مما يؤثر عن هذه الزوجة الفاضلة، أنها كانت حريصةً كل الحرص على إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وتكريمه، فكانت إذا مازحته, لم تُقَلل ذلك من هيبتها له, وتوقيرها إياه شيئاً . بالمناسبة: أنا لا أتمنى أن ترفع الكلفة بين الزوجين أبداً، إنْ رُفعت كلياً شقي الزوجان، لا بدَّ من حدٍ أدنى من الكلفة بين الزوجين، أما إذا رفعت الكلفة, واستباح كل طرفٍ أن يكثر المزاح مع الطرف الآخر, حيث يقلل من هيبته، كانت مشكلة . والحقيقة: المزاح كالملح في الطعام، إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، فالذي يمزح ينبغي أن يمسك بميزانٍ دقيقٍ جداً، إنه إن أكثر المزاح, فقد هيبته، وهناك مزاح يجرح، ومزاح فيه إهانة، ومزاح مؤلم، هناك مزاح، لكنه قليل ونادر؛ لا يؤذي أبداً، ولا يجرح، ولا يُهين، ولا يحجِّم، ولا يخجل، هذا هو المزاح المسموح به، هناك من يمزح مع زوجته بالانتقاص من شكلها، بإبراز عيوبها، بتكبير عيوبها، بالتعريض بأهلها، هذا ليس مزاحاً، بل هذا هدمٌ للعلاقات بين الزوجين . إليكم حديث السيدة عائشة عن السيدة سودة : في صفة لطيفة بهذه الزوجة، أنها كانت إذا أخطأت عادت سريعاً إلى صوابها، تقول السيدة عائشة:
((إذا أصابتها الحِدَّة, فاءت سريعاً, فتصلح نفسها مما نابها))
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ((مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ, أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ, مِنْ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ, قَالَتْ: فَلَمَّا كَبِرَتْ, جَعَلَتْ يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ, قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ, فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ))
[أخرجه مسلم في الصحيح]
أي حينما تخطئ تسارع إلى الإصلاح . ما الذي كان يسعد السيدة سودة, وما الذي فعلته حتى ترضي عنها رسول الله ؟
أيها الأخوة, هناك نقطة دقيقة جداً في هذا الزواج، كان رضاها برسول الله صلى الله عليه وسلم زوجاً, يغمرها سعادةً وهناءً، فلا تراها إلا وبهجة السرور تعلو وجهها الكريم، كان يسعدها أن ترى النبي صلى الله عليه وسلَّم, يبتسم من مشيتها المُتمايلة من ثِقل جسمها، فوق ما كان يأنس عليه الصلاة والسلام إلى ملاحة نفسها وخفة ظلها، حينما تسمعه عباراتٍ من مزاحها، فكانت إذا مشت أمامه, تمايلت يمنةً ويسرة، فكان عليه الصلاة والسلام يتبسَّم من مشيتها, وظلَّت هذه الزوجة الصالحة بهذه النفس الرضيَّة, تقوم على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم طيلة وجودها في مكة .
وبعد أن هاجر النبي إلى المدينة هاجرت هي أيضاً إليها، وبقيت هي الراعية لبيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في دار الهجرة، إلى أن جاءت عائشة بنت أبي بكرٍ زوجةً للرسول وأُماً للمؤمنين .
طبعاً لمجرَّد أن تكون المرأة زوجةً لرسول الله، هذا شرفٌ عظيم، وهذا مقامٌ كريم، وهذه مرتبةٌ عالية, تتقطَّع دون بلوغها أعناق الطامحين، فشيء كبير جداً: أن تكون امرأةٌ أُم المؤمنين، أن تكون امرأةٌ زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .
أيها الأخوة, لكن هذه المرأة المسنَّة الكبيرة، التي عندها خمسة صبية، كانت تعلم أنها لا تُرضي النبي بشكلها، لكنها ارتقت إلى مستوىً رفيع تطمح إليه، بحكمتها ولذكائها أفسحت للعروس الشابَّة, -السيدة عائشة- المكان الأول في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وحرصت أشد الحرص أن تتحرَّى مرضاة العروس الجديدة، وأن تقوم على خدمتها، وأن تسهر على راحتها .
أرأيت إلى هذا الوفاء؟ هذه حكمة، هي نالت مبتغاها من زواجها من النبي؛ أصبحت أم المؤمنين، أصبحت زوجة رسولٍ كريم، هذه الشابَّة التي تزوَّجها تحتاج إلى رعاية، تحتاج إلى عناية، اعتنت بها، وخدمتها، وأرشدتها، وعلَّمتها، وبيَّنت لها كي تُرضي رسول الله، وكي تُرضي عائشة رسول الله، وكي يرضى رسول الله عن سودة بهذه الخدمة .
ثم خصَّ عليه الصلاة والسلام كل زوجةٍ ببيتٍ خاص، ولمَّا وفدت زوجاتٌ أُخريات على بيوتات النبي فيهن حفصة، وزينب، وأم سلمة، وسواهن، لم تتردَّد أم المؤمنين سودة في إيثار عائشة بإخلاصها، ومودتها، وإن لم تظهر ضيقاً بتلك الزوجات .
تجد امرأة متقدِّمة في السن، لم تنجب أولاداً، زوجها محروم من الأولاد، فأراد زوجها أن يتزوج امرأةً تنجب له أولاداً، دون أن يضحي بها، دون أن يتخلَى عنها، هي في مكانتها الرفيعة العليَّة، هناك زوجاتٌ لا يرضَين بذلك، ويبتعدن عن أزواجهن، ويعشن وحدهن، هل هذا هو العقل؟ هذا موقف .
فقد دنا منها النبي عليه الصلاة والسلام، فبكت، قالت:
((يا رسول الله! هل غمصت عليَّ في الإسلام؟ -أي هل أخطأت في الإسلام؟- قال: اللهمَّ لا، قالت: يا رسول الله! يومي لعائشة في رضاك، -أي أنا أريد أن أبقى زوجةً لك، أريد أن أحظى هذا الشرف العظيم, ولا مأرب لي في الرجال, أريد أن أبقى معك لأنظر إلى وجهك- فو الله ما بي ما تريد النساء, ولكني أحب أن يبعثني الله في نسائك يوم القيامة))
أي أنا كل مطلبي أن أنظر إليك، أن أكحِّل عيني بمرآك، وأن أكون زوجتك هكذا إلى يوم القيامة, لأحظى بهذا الشرف، فهي شعرت أنها عبء، وأنها تحول بينه وبين سعادته، وأنه تزوجها جبراً لخاطرها، وأنها مصبية, وحينما توهَّمت: أنها إذا تركت رسول الله, تسعده بتركها, ندمت، قالت: لا, أنا أبقى معك, ولكن يومي لعائشة . والنبي بالعدل، كلكم يعلم أن التعدد من شروطه العدل التام بين الزوجات، العدل في الإنفاق، والعدل في السُكنى، والعدل في المبيت، أما حينما هي تسامح عن طيب خاطر, قالت : يومي لعائشة، وهكذا حافظت أم المؤمنين سودة على ودِّها لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، وعلى قُربها منه، وعلى صحبته في الدنيا والآخرة . خاتمة الدرس : أيها الأخوة, فالعقل بالمرأة شيء رائع جداً، امرأة حكيمة عاقلة، تعرف حدودها، تعرف حجمها، تعرف إمكاناتها، لا تكن عبئاً على زوجها، همها إرضاء زوجها، همها إدخال السرور على قلبه، هكذا كانت السيدة سودة بنت زُمعة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وجعلها قدوةً لنساء المسلمين .
والحمد لله رب العالمين
الموسوعة العلمية الاسلامية
لفضيلة الشيخ النابلسي
جزاه الله عنا كل خير