بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
*******************
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } الحجرات9
" فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ "
,
وأمر الله هنا هو لجماعة المؤمنين أن يقاتلوا البغاة من أجل إيقاف
الإقتتال بين الطائفتين, حتي يرجعوا إلي حكم الله ـ تعالي, ويوقفوا
الخصومة بينهما, حقناً لدماء المؤمنين , وصونا لحقوق كل من الطرفين, وذلك
بإزالة أسباب الإقتتال إبتداء, وبفرض حكم الله فيما اختلفوا عليه من
أمور, تحقيقاً للعدل الذي أمر به رب العالمين, حيث قال ـ تعالي
{ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء
بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ
إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } المائدة8
ولذلك فإن هذا الأمر الإلهي بمقاتلة البغاة أتبع مباشرة بقول الحق تبارك
وتعالي... فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين
أي: فإن عادت الطائفة الباغية إلي حكم الله, فإن علي جماعة المسلمين أن
يقوموا بالإصلاح بين الطائفتين بالعدل, وأن يحكموا في الخلاف بينهما بما
يرضي الله.
وهذا
التشريع الإلهي له حكمة بالغة من أجل صيانة السلام في مجتمعات المؤمنين,
ووقف إشتعال الخلافات والإقتتال بينهم بسبب اندفاع طائش, أو نزوة إستعلاء
بالقوة المادية وحب للسلطة, أو بغضب أعمي للقبيلة أو العائلة, أو وشاية
واش أو ساع بالوقيعة بينهم, فيحدث الإقتتال بين الأخوة في غواية من
الشيطان دون تيقن من حقيقة الأمور وتريث في مدارسة أسبابها.
وهذا التشريع يمثل قاعدة محكمة في حالة نزغ الشيطان بين الأخوة المؤمنين
بالله فيغريهم بالإقتتال فيما بينهم, وعلي جماعة المسلمين المبادرة
بالإصلاح بين الطرفين من أجل حقن دمائهم, وإزالة الخلافات من بينهم, صوناً
لكلمة المؤمنين من التفرق, وحفاظاً علي مجتمعاتهم من التمزق والتنازع
والتفكك, وإقرارا لكل ملامح الحق والعدل والصلاح الذي أمر به الله- تعالي-
بين الناس, وصوناً لهم من نزغات شياطين الإنس والجن, والشيطان يجري من
الإنسان مجري الدم من العروق!!
ولذلك
جاءت الآية التالية مؤكدة علي حق الأخوة بين المؤمنين, مذكرة جميع
الأطراف بهذا الحق, تحقيقا لتقوي الله- تعالي- وطلبا لرحمته فقال- سبحانه
وتعالي {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } الحجرات10
فالأصل أن أخوة الإيمان تجلب الأمن والسلامة للمجتمع المؤمن, وأن تعين علي
وحدة صفه, وعلي جمع كلمته, وتعاون جميع أفراده حتي في حالات الإختلاف في
الرأي, أو تعارض للمصالح, أو تعرض لفتنة الوقيعة بين المؤمنين بواسطة
أحد من الفاسقين.
وفي مثل هذه الحالات تؤمر بقية هذه الأمة المؤمنة بسرعة التدخل بين
المتقاتلين لإيقاف القتال , فإن رفضت إحدي الطائفتين الصلح , وبغت علي
الطائفة الأخري بشيء من الظلم , فإن شرع الله- تعالي- يأمر بقية جماعة
المؤمنين بقتال الطائفة الباغية حتي تجبرها علي وقف القتال وحقن دماء
المسلمين.
وهذا التشريع السماوي العادل سبق كل قوانين التحكيم الموضوعة بكماله,
وعدله, ونزاهته, لأنه إحتكام إلي أمر الله طلباً لمرضاته, وتحقيقاً
لتقواه, ورجاء لرحمته, فلا يشوبه هوي للنفس , ولا تعصب أعمي , ولا مطمع من
المطامع الدنيوية الزائلة.
" من أسرار القرأن الكريم للدكتور زغلول النجار "
*******************
ولو فهم مسلمو اليوم حكمة
هذا التشريع الإلهي , وطبقوه في حالة الخلاف بين عدد من طوائفهم لتمكنوا
من حقن دماء عشرات الآلاف من أبناء هذه الأمة الذين سقطوا , ولا يزالون
يسقطون في ساحات الإقتتال بين الأخوة في كل من ليبيا واليمن وسوريا , بين
قتيل , وجريح , ومعتقل , ومشرد , طوال العديد من الشهور الماضية.
ولو
طبق مسلمو اليوم هذا التشريع الإلهي ما غرقت هذه البلاد من بلاد
المسلمين فيما تغرق فيه اليوم من خراب ودمار شاملين , وبحار من الدماء
والأشلاء , وساحات للتعذيب الذي جاوز كل الحدود , وشوه صورة العرب
والمسلمين في أعين أهل الأرض جميعاً !!
ولو
فقه مسلمو اليوم حكمة هذا التشريع الإلهي ما أجبر بلد مسلم مثل ليبيا
إلي طلب التدخل الأجنبي في النزاع القائم بين أبنائه ، ولكنه غياب شرع
الله عن الساحة العربية بتدخل الأعداء في شئوننا الداخلية منذ الإحتلال
الغربي لديار المسلمين منذ أكثر من قرن من الزمان وكان همه الأكبر هو
إقصاء الإسلام عن مقامات إتخاذ القرار.
فهل نستطيع في ربيع الثورات العربية المباركة أن نصحح هذا الخلل الذي أضر
بنا ضرراً بليغاً وذلك بالرجوع إلي تطبيق أحكام الله في كل أمورنا, خاصة
في حالات الإختلاف, فنكون بذلك قد نجحنا في تصحيح أوضاعنا, وحقن دماء
المتقاتلين من بيننا, وفي رد كيد أعدائنا إلي نحورهم!
هذا هو الأمل المنشود من كل هذه الثورات العربية المباركة .
{ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } يوسف21